[آراء الفرق في مسألة القضاء والقدر والرد عليها]
القول الأول: يقول العلماء: قول القدرية المعتزلة، ولفظ القدرية ينطبق على طائفة المعتزلة وعلى الجبرية، وانطباقه على المعتزلة؛ لأنهم نفاة للقدر، وانطباقه على الجبرية لأنهم يثبتون القدر على أن الإنسان مجبور على فعله، ولكن إذا ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى؛ فإنما يقصدون بها المعتزلة ولا يقصدون الجبرية، فإنهم ميزوا، وإن كان كل لفظ يطلق على كلتا الطائفتين.
لكن إذا قيل: القدرية المعتزلة، دل على أن هؤلاء هم نفاة القدر، الذين يقولون: لا قدر، هؤلاء ماذا يقولون؟ يقولون: إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أفعال العباد، بل العباد هم الخالقون لأفعالهم، وإن الله لا يعلم بها إلا بعد وقوعها، فالله سبحانه وتعالى شاء من المؤمن الإيمان، ولكن الكافر هو الذي لم يشأ الإيمان فوقعت مشيئة الكافر ولم تقع مشيئة الله تعالى، وهذا الكلام باطل لا شك فيه.
ما هي حجة هذه الطائفة؟ قالوا: لو قلنا: إن الله إذا قدّر على العبد المعاصي، ثم عاقبه عليها كان ظالماً، وعند المعتزلة خمسة أصول، ومنها: العدل، قالوا: ومقتضى العدل، لو قلنا: إن الله خلق الإنسان وخلق فعله، ثم عاقبه عليه كان ظالماً، ثم إن الإنسان إذا كان مجبوراً على عمل ثم يعاقب عليه فإنه يكون مظلوماً بهذا، والله لا يظلم أحداً.
إذاً النتيجة أن الله لم يقدر أعمال العباد، وإنما العباد هم الذين يتصرفون بأفعالهم ويدبرونها، وهذا باطل لا شك في بطلانه.
لعل من اللطائف هنا ما ذكره شارح الطحاوية رحمه الله: أن أعرابياً أضل ناقة له، وعليها متاعه، فدخل إلى المسجد، فوجد حلقة، وإذا هي حلقة من حلقات المعتزلة، وأظن فيها عمرو بن عبيد أو غيره، فوجد ظاهرهم الصلاح، ولكن بواطنهم الاعتزال، فقال: معروف أن أهل الصلاح دعاؤهم يرجى -وأخذنا من أنواع التوسل: التوسل بدعاء الصالحين- فقال لهم: ناقتي ضاعت، ولو دعوتم الله أن يرد ناقتي جزاكم الله خيراً، فقال هذا المعتزلي: اللهم يا رب إنك لم ترد أن تذهب ناقته وتضيع، اللهم إنا نسألك أن تردها عليه، فقال هذا الأعرابي: والله لا حاجة لي بدعائكم، قالوا له: لِمَ؟ قال: إذا كان هو ما أرادها ثم ضاعت، وقد يريد أن ترجع ولا ترجع، فما الفائدة من دعائكم إذاً؟ فبهت المعتزلة في الحلقة كلهم، لم نحتج إلى أدلة ولا إلى نصوص وأفحمهم هذا الأعرابي بكلمتين.
ولذلك نرد على المعتزلة بردود عديدة: الرد الأول: أن هذا مخالف للأدلة المثبتة لمشيئة الله تعالى، وأنه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:١٣] ويقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الإنسان:٣٠] ويقول: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥] .
الرد الثاني: أن هذا مخالف لعموم قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:٦٢] الآن أنت عملك شيء أم ليس شيئاً؟ نقول: عملك شيء، إذاً: الله خالق له، ونجد الصفات والأفعال تبعاً للذات، فمادام أن الذات مخلوقة فأفعالها تبع لها مخلوقة لله سبحانه وتعالى، والله يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦] .
الرد الثالث: أن الله مالك السماوات والأرض، فكيف يكون في ملكه ما لا يريده ولا يشاؤه، هل يمكن أن يقع في ملكه ما لا يشاؤه الله ولا يريده؟ الله المدبر لهذا الكون، فلا يكون في ملكه إلا ما شاء سبحانه وتعالى وأراده، والشيء الذي يكون مدبراً ولا يقع فيه ما لا يريده يدل على عجزه وضعفه وعدم ملكه الكامل، ملكه ناقص، لكن الله سبحانه وتعالى ملكه كامل لكل شيء.
الرد الرابع: أن نقول لهم -وهذه قاعده قالها شيخ الإسلام ابن تيمية، ودائماً ينبه عليها، وينبغي أن نقف معها دائماً -يقول: إن المبتدعة لا يفرون مما دلت عليه ظواهر النصوص إلا وقعوا في مثله أو شر منه.
فنقول لهؤلاء المعتزلة: إنكم وقعتم في شر أعظم مما فررتم منه، وما ذلكم؟ قالوا: يلزم على قولهم: إن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، وهل الله يغالب؟ لا، هو أراد أن ينفي عن الله الظلم، فوقع في شر مما فر، أنها وقعت مشيئة الكافر ولم تقع مشيئة الله تعالى، فدل على أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، وهذا أقبح اعتقاداً عندهم من الاعتقاد الأول.
الرد الخامس: أن الله سبحانه وتعالى قد قدر الخير والشر، والله حذر من الشر وحث على الخير، وجعل للناس عقولاً يميزون بها بين الخير والشر، كما في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:٧-٨] وأرسل الله الرسل لإقامة الحجة على الناس؛ لأجل ألا يحتج الناس فيقولون: لولا أرسلت إلينا رسولاً، تجد أنه: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥] فقامت الحجة ببيان الحق وإيضاحه للناس، وهناك ردود أخرى لسنا بصدد الكلام عليها.
قال: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن القدرية انقسموا إلى قسمين: غلاة ومقتصدون، وإن كانت تلك الطائفتان على ضلال، فالغلاة أنكروا مرتبة العلم ومرتبة الإرادة، وهم الذين قال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله: (ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا خصموا وإن أنكروا كفروا) .
الطائفة الثانية: أنكرت المرتبتين الأخريين: الكتابة والخلق، وبهذا نعلم أنهما ليستا فرقة واحدة بل هما فرقتان.
الجبرية ماذا يقولون؟ يقولون: إن الإنسان مجبور على فعله، ولهذا غلوا في إثبات القدر وإثبات الإرادة غلواً كاملاً، وقالوا: كل ما يفعله الإنسان فهو مجبور عليه، وحركة الإنسان في أفعاله كلها كحركة المرتعش، وكالريشة في مهب الريح، وكورقة الشجر التي تطير ولا تدري أين تتجه، لو جئت إلى شخص مريض بـ (الأنفلونزا) مثلاً، وينتفض من شدة البرد، وتقول: يا أخي! اتق الله، لماذا تنتفض؟ ليس بإرادته هو، هل يعتب عليه الانتفاض؟ لا يعتب؛ لأن حركة الإنسان مجبور عليها.
ولذلك قالوا: إن الإنسان مجبور على فعله، طيب! هل نسبة الأعمال إليه؟ قالوا: هذا من باب المجاز، وليس من باب الحقيقة، وهذا لا شك أنه باطل، وأوصلهم هذا الأمر إلى أمرٍ قبيح وهو: أن كل ما يفعله الإنسان والله يحبه ويرضاه حتى وإن كانت -نعوذ بالله- معصية، وهذا لاشك أنه كلام باطل، وهذا القول غالباً ما ينطبق على غلاة الصوفية الذين وصل الحد ببعضهم إلى أن قالوا: إن فرعون لما قال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] هذا من كمال إيمانه، لكن موسى لم يفهم مقصوده، ولذلك عتب عليه، وإلا فهو حين يقول: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] صحيح؛ لأن الله حال في كل مكان، وكل فعل يوجد في الكون حتى السجود للأصنام وغيره محبوب إلى الله تعالى، وهذا كلام باطل، بل هو الكفر بعينه، هذا مذهب لا شك أنه ظاهر الفساد.
ما حجة هؤلاء؟ الجواب: الكتابة في اللوح المحفوظ، ويقولون: الأحاديث والأدلة تدل على أن الله كتب مقادير العباد كلها، فمادام أنها مكتوبة فلا يمكن للإنسان أن يتصرف إطلاقاً، وهذا الكلام باطل باطل باطل! ولعلي أقول للأحبة: يوجد في عصرنا من يوجد عندهم مفهوم الجبر، وإن كان هو ليس جبرياً، أي: ليس منتسباً إلى هذه الطائفة.
نأخذ مثالاً بسيطاً الآن: قد يكون في بيتك وقد يكون من أقاربك من يأخذ بهذا المذهب، فبعض الناس تأتي تنصحه وتقول: يا أخي! اتق الله، لماذا لا تصلي؟ قال: جزاك الله خيراً، احمد الله أن الله هداك وأنا ما هداني، هذا مفهوم الجبر، بمعنى: أنني ليس لي تصرف أبداً، أنتظر الهداية فقط، وإذا كان طيباً قال: يا أخي! جزاك الله خيراً، ادع الله أن يهديني مثلما هداك فقط، وكأنه ليس عنده قدرة على الدعاء، بل يريد أن ينتظر حتى تنزل عليه الهداية من السماء فيلبسها، ثم يأتي إلى المسجد يصلي، وهذا كلام باطل لا شك في بطلانه، وإن كان قائل هذا القول لا يعرف الجبرية ولا يعرف مثبتة القدر، ولا يعرف غلاة التصوف ولا غيرهم، لكن قد يوجد له شيء من الرواسب في الناس، وكذلك يشم منه رائحة أخرى وهو مذهب الإرجاء، وإن كان في الجملة قد لا نقول: إن هؤلاء مرجئة، بعض الناس تجلس معهم في المجلس، وتجد الناس يجلسون ويقولون: أهم شيء الصلاة، يجلسون مجلساً على معاصٍ وغيرها، ويقولون: صلِّ والباقي كله يهون، أهم شيء الصلاة، وكأنهم يقولون بهذا المفهوم: من أدى هذه الصلاة سقطت عنه التكاليف كلها، بمعنى: أنه لاشيء عليه.
والمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أصلاً، ولذلك قال شاعرهم:
فأكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم
مادام أنك ستقدم على رب كريم فلا تترك معصية إلا وذهبت إليها، وهذا -والعياذ بالله- خطر كبير، ووقف أهل السنة في وجوه المرجئة وأبطلوا مقالتهم، ولسنا بصدد الكلام عن الإرجاء، وأقسام المرجئة وغيرها.
هؤلاء الجبرية نرد عليهم بردود عديدة: أولها: أن الله سبحانه وتعالى أضاف العمل إلى العبد، وجعله كسباً له يعاقب عليه ويحاسب عليه بث