[اختلاف الناس في صفة نزول الرب]
نقول: إن الله ينزل نزولاً حقيقياً، وذهب بعض أهل العلم ونقل عن بعض السلف: إنه ينزل بذاته، وروي فيه حديث، لكن الحديث فيه ضعف، ولكن نقول: ينزل ربنا نزولاً حقيقياً كما يليق بجلاله وعظمته، وإذا قلنا: كما يليق بجلاله وعظمته، لم نجعل للعقل أن يشبه قضية النزول أو يكيفها، ونقطع أطماع العقل فيها، بل نقول: ينزل نزولاً حقيقياً كما يليق بجلاله وعظمته نثبته لله تعالى، ولا نتأول هذا النزول بشي أبداً.
اختلف العلماء في مسألة النزول، فـ أهل السنة والجماعة يثبتون للرب سبحانه وتعالى نزولاً حقيقياً، وقالوا: ينزل بذاته، ومنهم من قال: ينزل نزولاً حقيقياً.
من الطوائف من قالت: النزول هنا هو نزول المَلك، أي: أن النازل هو المَلك وليس الرب سبحانه وتعالى، ومن الطوائف من قالت: النزول هنا أي: ينزل أمر ربنا، وليس نزول الرب سبحانه وتعالى، وهذا يعتبر تأويل وتحريف للنص، ومن الطوائف من قالت: تنزل رحمة الله تعالى، فأصبحت طوائف المؤولة أثبتت ثلاثة تأويلات: التأويل الأول: هو نزول الملك.
التأويل الثاني: نزول الأمر.
الثالث: نزول الرحمة.
ولكن هذه التأويلات باطلة لا شك في بطلانها.
أما القول بأنه ينزل الملك فلا شك أنه ليس صحيحاً، والدليل عليه أن الملائكة تنزل في كل ساعة من ليل أو نهار، ثم لماذا التخصيص لها بأن تنزل في ثلث الليل الآخر دون غيره؟ ثم يبطل هذه المقالة أنه في نفس لفظ الحديث: (فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟) فهل الملك هو الذي يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من داع؟ حاشا وكلا أن يكون هذا هو قول الملك، وإنما هو قول ملك الملوك وهو الرب سبحانه وتعالى.
وأما الذين قالوا: إنه ينزل أمره، فنقول: هذا الكلام باطل لا شك في بطلانه، فنزول أمر الله تعالى ينزل في كل لحظة {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] ولا يخصص أمر الله تعالى بهذا الجزء من الليل دون غيره، مما يدل على بطلان أصحاب هذا القول.
ثم القول: بأنه نزول رحمته، هذا أيضاً باطل، والدليل على بطلانه: أن رحمة الله تعالى قريبة من المحسنين، ولذلك يقول تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:٥٠] وكيف تخصص بالثلث الأخير دون غيره، مما يدل على أن قول هؤلاء أن الرحمة لا تنزل على عباده إلا في ثلث الليل الآخر، وما عداه فلا رحمة للعباد، وهذا تأويل باطل لم يدل عليه كتاب ولا سنة.
ثم نقول: إن النصوص التي وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والقاعدة عندنا: أن نحملها على ظاهرها، ولا نجري فيها المجاز أبداً، وقد وردت أحاديث وآثار تبين نزول الرب سبحانه وتعالى وكلها تدل على الحقيقة، ولا يمكن أبداً لنص واحد أن نقول: يمكن أن نحمل هذا النص على النص الآخر، مما يدل على غلط هؤلاء وانحرافهم عما دل عليه الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
نحن نعلم أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني؟ من يسألني؟ من يستغفرني؟) والحديث متفق عليه.
وهذا الحديث من الأحاديث العظيمة التي تلقتها الأمة بالقبول، وشأنه عظيم، وقد أفرد العلماء رحمهم الله تعالى كتباً مستقلة في النزول، وممن أفرد في ذلك الإمام الدارقطني رحمه الله تعالى، وأبو بكر الصابوني، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب عظيم نفيس اسمه: شرح حديث النزول، بين فيه أدلة هؤلاء وأدلة أهل السنة، وشبه المبتدعة والرد عليهم، ثم أورد ما خطر في أذهانهم، ثم أبطل تلك الموارد التي وردت، وسيأتي إن شاء الله إيماء إليها، والإمام الذهبي رحمه الله تعالى أفرد كتاباً في النزول.
يقول عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله في رده على بشر العنيد: إن هذا الحديث أغيض حديث على الجهمية، أي: ما أضره على قلوبهم، والجهمي إذا سمع الحديث وجد الغيض في قلبه، وإذا أردت أن تغيض جهمياً فأورد له حديث: (ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر) فتضيق عليه الأرض بما رحبت، ولا شك أن هؤلاء الذين لا يقبلون ما دلت عليه النصوص ولا يرتضون بها من المبتدعة.
بينا أن صفة النزول نثبتها كما يليق بجلال الله وعظمته، وأثبتنا أنها صفة فعل لله تعالى، وأنها متعلقة بالإرادة والمشيئة، وقلنا: أحاديث النزول من الأحاديث المتواترة، وقد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون صحابياً رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن هؤلاء الصحابة: أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وجبير بن مطعم، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وعبد الحميد بن سلمة عن أبيه عن جده، وأبو الدرداء وغيرهم، وأورد أسماء هؤلاء الصحابة الإمام ابن القيم في صواعقه المرسلة، وأورد كل حديث ولفظه ومن خرجه من باب تبيين أن أحاديث النزول من الأحاديث المتواترة الثابتة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى بعد أن أورد هذا الحديث: هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو حديث منقول من طرق شتى، هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أن الله سبحانه وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته، وهو يبطل مقالة الجهمية أن الله في كل مكان، ولا شك أن هذا القول باطل منحرف عما كان عليه سلف الأمة.
ومن المسائل التي اختلف العلماء فيها أن أهل السنة قالوا: إنه ينزل نزولاً يليق بجلاله وعظمته، وهل نقول: ينزل بذاته، أم نقول: ينزل نزولاً حقيقياً؟ قولان لـ أهل السنة: القول الأول: ينزل بذاته، وذكروا أن فيه حديثاً لكنه لا يصح رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: ينزل نزولاً حقيقياً يليق بجلاله وعظمته.
وبعضهم يقول: نمسك فلا نقول: ينزل بذاته، ولا لا ينزل بذاته، بل نقول: ينزل نزولاً يليق بجلاله وعظمته.