للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كلام أئمة أهل العلم فيما شجر بين الصحابة]

ننقل عن كبار أئمة السلف رحمهم الله تعالى ما قالوه حول ما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ننطلق إلى عظيم من عظمائهم وهو الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فإنه قال: (ومن الحجة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن مساويهم، والخلاف الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداً منهم، أو انتقصه، أو طعن عليهم، أو عرض بعيبهم، أو عاب أحداً منهم، فهو مبتدع خبيث مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والإقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة من الفضائل) هذا قول إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله تعالى ورضي عنه.

ثم أعطانا المنهج في قضية تفضيل أصحاب رسول الله، وخير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي بن أبي طالب، هؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك خير الناس، لا تجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحدٍ منهم بعيب أو نقص.

سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن الفتن التي حدثت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:١٣٤] .

قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: وأفضل الناس بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام: أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب الفاروق، ثم عثمان بن عفان ذو النورين، ثم علي بن أبي طالب المرتضى رضوان الله عليهم أجمعين، ثم قال: نتولاهم جميعاً، ولا نذكر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير.

وقال أبو زرعة رحمه الله تعالى وهو من كبار أئمة أهل السنة، وقد روى الخطيب رحمه الله تعالى في الكفاية في علم الرواية، بسنده إلى أبي زرعة أنه قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، فمن قدح في الصحابة قدح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: والجرح بالقادحين هو أولى، وهم زنادقة بما جرحوا به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهنا كلام نفيس بديع للإمام ابن بطة العكبري رحمه الله تعالى، ذكره بعد أن ذكر فضائل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قال بعدها: ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهدوا المشاهد معه صلى الله عليه وسلم، وسبقوا الناس بهذا الفضل، فقد غفر الله لهم، وأمرك بالاستغفار لهم، والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم سبحانه وتعالى ما سيكون منهم، وأنهم سيقتتلون، وإنما فضلوا على سائر الخلق جميعاً؛ لأن الخطأ والعمد الذي حدث ووقع منهم كله مغفور لهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

وهنا يبين المنهج الفريد لهؤلاء، قال: ولا تنظر في كتاب صفين -وقد ألف في معركة صفين كتاباً، وكذلك الجمل، ووقعة الدار، وسائر المنازعات التي جرت بينهم- ولا تكتبه لنفسك أبداً، ولا لغيرك، ولا تروه عن أحد، ولا تقرأه على غيرك، ولا تسمعه ممن يرويه.

ومن الخطأ أن تلقى دروس ومحاضرات في خلاف الصحابة رضي الله عنهم، ويعرضون كأنهم كسائر الناس، يقال: إن هؤلاء كانوا على باطل وهؤلاء على حق، ثم يقدح فيهم؛ لأن الإنسان لن يخرج بعد عرض هذه المسائل إلا وفي نفسه شيء على بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، والله قد غفر لهم ورضي عنهم.

ولذلك قال ابن بطة العكبري رحمه الله: وعلى ذلك اتفق سادات علماء هذه الأمة على النهي عما وصفناه، ومنهم: حماد بن زيد، ويونس بن عبيد، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن إدريس، وابن أبي ذئب، وابن المنكدر، وابن المبارك، وشعيب بن حرب، وأبو إسحاق الفزاري، ويوسف بن أسباط، وأحمد بن حنبل، وبشر بن الحارث، وعبد الوهاب الوراق، يقول: كل هؤلاء قد رأوا النهي عنها والنظر فيها والاستماع إليها، وحذروا من طلبها، والاهتمام بجمعها، وقد روي عنهم فيمن فعل ذلك أشياء كثيرة بألفاظ مختلفة متفقة المعاني على كراهية ذلك، والإنكار على من رواها واستمع إليها، وهذا يدلنا على ما يتميز به أهل السنة والجماعة في هذا الأمر.

وكذلك نقل عن أبي الحسن الأشعري، وأبي عثمان الصابوني، ونقل كذلك عن ابن دقيق العيد، ومما نقل عنه فيما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما نقل في هذا الأمر منه ما هو باطل وكذب، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحاً منه أولناه تأويلاً حسناً؛ لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما ذكر من الكلام اللاحق من الأخبار محتمل التأويل أو مشكوك، قال: والموهوم لا يبطل المحقق المعلوم وهو الثناء عليهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

وهنا كلام نفيس للإمام الذهبي رحمه الله تعالى ورضي عنه.

فقد ذكر في سير أعلام النبلاء في المجلد العاشر قال: وقد تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وعن قتالهم، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، قال: ولكن أكثر ذلك إما منقطع أو ضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين أيدي العلماء فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفو القلوب وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين على العامة وآحاد العلماء, وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى.

لا يكون إلا للعالم والمنصف ويكون في خلوة بشرط أن يستغفر لهم بعد أن يقرأ كما علمنا الله حيث يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:١٠] .

إلى أن قال: فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم من جهاد، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة، ثم قال: أما ما نقله من يدعي محبة آل البيت وأهل البدع في كتبهم، فهذا لا نعرج عليه ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب هؤلاء الذين يعظمون آل البيت في رواية الأباطيل، أو رد ما في الصحاح والمسانيد، ثم قال واصفاً لهم: ومتى إفاقة من كان سكران؟! أي: من كان سكران لا يفيق وهو مستمر على قضية السكر.

ولقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً طويلاً نفيساً نثره في الفتاوى، وكذلك في منهاج السنة، وذكر ذلك في جل كتبه التي كتبها في العقيدة، سواء الواسطية، أو شرح الأصفهانية، أو غيرها من الكتب العظيمة التي ألفها، لا بد أن يتطرق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين فضائلهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

ومما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ونعلم مع ذلك في أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله، لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين قال النبي صلى الله عليه وسلم: تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث دليل على أن مع كل طائفة حقاً، ولكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقربُ إلى الحق من معاوية.

قال: وأما الذين قعدوا عن القتال في الفتنة كـ سعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اتبعوا النصوص التي سمعوها في مسألة القتال في الفتن، قال: وعلى هذا أكثر أهل الحديث.

<<  <  ج: ص:  >  >>