[منزلة علم التوحيد]
إن منزلة علم التوحيد عظيمة، ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن شرف العلم يدل على شرف المعلوم" ونحن بتوحيد الله تعالى ماذا نتعلم منه؟ نتعرف على الرب سبحانه وتعالى، وعلى أسمائه، وعلى ما يجب علينا، وشرف العلم بشرف المعلوم مادام معلقاً بالرب، فالله له المنازل العليا سبحانه وتعالى في قلوب أهل الإيمان والصلاح والتقوى، وكان تعلم علم التوحيد أفضل العلوم على الإطلاق، كيف لا وقد دلت عليه النصوص الكثيرة.
فنقول: مما يدل على شرف هذا العلم: أولاً: أنه أول دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وما من نبي إلا قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:٢٣] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف:٨٥] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٧٣] .
ثم إنه أول واجب على المكلف، فأول ما يجب على المكلف هو توحيد الله تعالى، بل هو أول ما يدخل به الإنسان إلى الإسلام، فلا يدخل الإنسان إلى الإسلام إلا بتوحيد الله تعالى، ولذلك نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) بدأ بقضية التوحيد، مما يدل على عظم منزلته، وأنه أول ما يدخل به الإنسان إلى الإسلام.
قالوا: إنه أول منازل الطريق والسير إلى الله تعالى، ومن سار إلى الله بغير توحيد فلن يعرف الطريق ولم يسر إلى الله حق السير.
ثانياً: ومن منزلة التوحيد كذلك: أنه الحياة لكل إنسان، ولا حياة للمسلم أبداً إلا بتوحيد الله تعالى، والله قد ذكره في كتابه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:١٢٢] أي حياة تلك إلا بوقور لا إله إلا الله في قلبه، والعمل بمقتضاه، مما يدل على أن للتوحيد منازل عليا.
ثالثاً: ومن منزلة التوحيد: أنه جعل نوراً يضيء القلوب {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:٥٢] وأعظم ما يُهدى إليه الإنسان وينور قلبه به هو توحيد الله تعالى، ولذلك تعتبر قلوب أهل الكفر والشرك مظلمة، أما قلوب أهل الإيمان والتوحيد مضاءة أشد من ضوء الشمس؛ لأنهم يبصرون بتوحيد الله تعالى، ويحصل لهم السعادة في الدنيا والآخرة.
رابعاً: ومن منزلة التوحيد: أن الإنسان لا يستغني عنه طرفة عين، وسبحان ربي! إن الإنسان ليتأمل الصلوات، يصلي الفجر وليس علينا صلاة بعدها إلا وقت الظهر وهكذا، والصيام يمر في العام مرة، والحج وهكذا العبادات، لكن توحيد الله لا نستغني عنه طرفة عين، فما نقول: هذا الوقت ليس عندنا توحيد فيه ولا نحتاج إليه أبداً، بل يصبح التوحيد مع الإنسان منذ أن يدخل في دين الله تعالى إلى أن يودع هذه الدنيا وتوحيد الله معه كاملاً.
خامساً: ومن منزلة التوحيد: أنه آخر ما يودع به الإنسان الدنيا، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) دل على أن بدايتك توحيد ونهايتك توحيد، بل كل أجزاء حياتك هي توحيدٌ لله تعالى، وأعظم دليل على ذلك قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:١٦٢-١٦٣] حياتك كلها لله، وهكذا وفاتك يجب أن تكون لله؛ ليصبح الإنسان جل وقته وحياته هو لله تعالى.
سادساً: قيل: إن التوحيد من منزلته أنه شفاء، كم نجد ممن دخل في دين الله تعالى كان التوحيد شفاء لقلوبهم، نسمع من كثير ممن أسلم سبب توحيده أنه لم يجد في عقائده التي كان عليها شفاء لما في قلبه، ولا إجابة لأسئلة ملحة عليه إلا في توحيد الله تعالى، فالحمد لله على هذا التوحيد، ونسأل الله أن يتوفانا على هذا التوحيد الذي لا نتجاوزه طرفة عين، بل يختم لنا بكلمة لا إله إلا الله.
يقول السلف، وذكرها ابن القيم، وتكلم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن القرآن كله توحيد، وما من جزئية منه تخرج عن توحيد الله تعالى.
قالوا: فإن القرآن إما خبر عن الله تعالى وأسمائه، وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة الله تعالى، وتعتبر تلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام الله تعالى لأوليائه ولأهل توحيده، وما يفعل الله بهم في الدنيا والآخرة، وإما خبر عن أهل الشرك، وما يكون لهم في الدنيا وفي الآخرة من المعيشة الضنك، ومن العذاب في الدنيا والآخرة، وهذا يعتبر جزاءً لإعراضهم عن توحيد الله تعالى، ولذلك قال سلف الأمة رحمهم الله تعالى: ليس في القرآن شيء ليس مرتبطاً بتوحيد الله، مما يدل على أهمية التوحيد والتركيز عليه.
ثم إني أقول: كم نجد من بعض الكتاب المعاصرين يقولون: أشغلتم الناس بهذه القضايا، وفرقتهم الأمة بسبب قضية التوحيد.
نقول: لسنا نحن الذين جئنا بهذا المنهج، هو منهج الله ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد فرق الأنبياء بين أبنائهم وبين أنفسهم، وبين أزواجهم وأنفسهم، وجُعل منهجاً التفريق على قضية التوحيد، والوزن بتوحيد الله تعالى، وكلما قرب الإنسان من توحيد الله كانت له المنازل العليا عند الله، وفي دين الإسلام وعند أوليائه، وكلما ابتعد عن توحيد الله؛ ابتعد عن المنهج، ولم يكن على ضوء ما كان عليه سلف الأمة.
وإني أقول للأحبة: إننا لفي حاجة إلى نشر عقيدة السلف الصالح، وبيانها للناس، وتوضيحها وتبصير الناس بها، وغرسها في نفوسهم؛ لأنها أصبحت غريبة في المجتمعات الإسلامية.
انطلق إلى كثير من المجتمعات تجد القبور قد ضربت أطنابها، عليها القبب، والناس يطوفون جولها، وتجعل لها مزارات، وتعتبر من المتاحف السياحية، يتوجه الناس إليها، ويرجون بركتها ويدعونها من دون الله، وأصبح كثير من المسلمين يحلفون بغير الله ويدعون غير الله، ويعلقون التمائم، ويحصل عندهم من المعالم التي ترى بعضها موصلة إلى الشرك بعينه، ومع ذلك يقول بعض الدعاة: لا تفرقوا الناس على توحيد الله، بل اجمعوهم وإن كانوا على ما كانوا عليه من المعتقد.
نقول: لا، نحن ننصح ونوجه، وندل الناس على عقيدة سلف الأمة، وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة، نشلاً لهم من هذه الأمراض، والانحرافات، التي نسأل الله أن يرد المسلمين إلى عقيدة أهل السنة رداً جميلاً، وأن يبصرهم بمعتقد سلف الأمة، وأن ينفع بهم.
ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.