[أدلة الرؤية في الكتاب والسنة والرد على المبتدعة]
ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مسألة الرؤية، وقد دل عليها آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، منها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢-٢٣] وفي قوله تعالى: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:٣٥] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:٣٥] .
بل إن سلف الأمة يقولون: إن مسألة الرؤية مما تواترت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر هل تضامون في رؤيته؟) ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون ربهم، بل تعتبر رؤية الرب سبحانه وتعالى أعظم نعيم لأهل الجنة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً هذا المعتقد، وإن كانت طوائف من المبتدعة تنفي رؤية الله تعالى كـ المعتزلة، والجهمية، والخوارج، وبعض طوائف الرافضة ويقولون: إن الله لا يُرى يوم القيامة، وكلامهم هذا مخالف لما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويصبح من عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الرؤية لله تعالى، بل يعتبر من أعظم نعيم أهل الجنة رؤية الله، ونسأل الله أن نكون ممن يراه.
نأخذ الآن الأدلة ونبين وجه الدلالة، وسنذكر شيئاً من أدلة النفاة لرؤية الرب سبحانه وتعالى، ونتكلم على مسائل: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه أم لا؟ هل يمكن أن يرى الله سبحانه وتعالى في الدنيا أم لا؟ أما بالنسبة للآخرة فإنه لا شك في رؤية المؤمنين له سبحانه وتعالى.
في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢-٢٣] لا شك بأن الناضرة هنا مقصود بها الحسن والجمال، ولذلك قال تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٣] هنا يقصد به النظر وهو بالبصر، والنظر عندنا قد ينقسم إلى قسمين: نظر حسي، ونظر معنوي، والنظر الحسي يتعلق بالبصر، والنظر المعنوي هو الذي يتعلق بالقلب، والنظر الحسي بالبصر، فمثلاً أنا أشاهد الآن الأحبة أمام عيني، لكن النظر المعنوي هو نظر البصيرة، وهو متعلق بالقلب، وأن الله يُبصِّر الإنسان بمعرفة الحق من الباطل، ويصبح يميز بينهما، هل هو لمجرد المشاهدة؟ لا.
قد أسمع مثلاً كلاماً، ويصبح عندي بصيرة فيه أعلم بأنه حق أو باطل، هذا لم يتلق بمشاهدة وإنما بسمع، وكانت البصيرة في القلب، هذه الآية تدل على أن النظر بالبصر، وأنها إلى ربها، وقد عديت بإلى، مما يدل على أن هذه الأجساد التي تبصر الرب تزداد حسناً ونضارة وجمالاً؛ بسبب رؤيتها لله تعالى، وذلك من فضل الله تعالى على المؤمنين بأنهم يرون ربهم سبحانه وتعالى، ولذلك أنشدوا في قضية التواتر وقد ذكرناه:
مما تواتر حديث من كذب ومن بنى لله بيتاً واحتسب
ورؤية شفاعة وحوض ومسح خفين وهذي بعض
دل على أن هذه المسائل مما تواترت.
ومما يستدل به أهل السنة والجماعة على الرؤية كذلك قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] ونفي الإدراك هنا يدل على أنه يرى لكننا لا نحيط به إدراكاً، وإن كانت المبتدعة من الخوارج والمعتزلة استدلوا بهذه الآية على نفي الرؤية، وكلامهم هنا باطل، فالله تعالى يبين أنه لا تدركه الأبصار، أي: أنها تراه لكنها لا تحيط به إدراكاً، ونحن نرى ربنا بأبصارنا، ولكن أبصارنا لا تدركه، وهذه من شبهة نفاة الرؤية عن الله سبحانه وتعالى: الله ليس بجسم، وبناءً عليه لا ترى إلا الأجسام، والله ليس بجسم، والنتيجة أن الله لا يرى، بني على مقدمتين ونتيجة، وهذا استدلال عقلي، وهو ما قاله شيخ الإسلام أن المبتدعة يقدمون العقل على الكتاب والسنة، ويستدلون بأدلة عقلية ولكنها جهليات في الحقيقة وليست أدلة عقلية.
المقدمة الأولى، قالوا: إن الله ليس بجسم.
المقدمة الثانية: أنه لا يرى إلا الأجسام.
النتيجة: أن الله لا يرى.
ومما استدل به هؤلاء قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] قالوا: الله قال لموسى: ((لَنْ تَرَانِي)) وعند المبتدعة يقولون: إن (لن) تفيد التأبيد، ولكن هذا القول باطل لا شك فيه.
في قوله: ((لَنْ تَرَانِي)) هذه الآية استدل بها أهل السنة واستدل بها المبتدعة، أهل السنة يثبتون بها الرؤية، ووجه إثبات الرؤية: أن الله قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: ((لَنْ تَرَانِي)) أي: لن تراني في الدنيا؛ لأن النصوص الأخرى دلت على الرؤية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم سترون ربكم) ويخاطب الصحابة، وأيهما أفضل: موسى أم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؟ لا شك أن موسى أفضل، فكيف يمنع موسى من الرؤية ويقال للصحابة: (إنكم سترون ربكم) فدل على أن الرؤية هنا يقصد بها إثبات الرؤية في الآخرة، لكن قيل لموسى عليه الصلاة والسلام: ((لَنْ تَرَانِي)) أي: في الدنيا، وقولهم: إن (لن) تفيد التأبيد قول باطل لا شك فيه، ودل على بطلانه في فهمه للتأبيد أن الإمام ابن مالك رحمه الله تعالى قال في ألفيته:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا
دل على أن قول المبتدعة أن (لن) تفيد التأبيد على أن الله لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، قال:
فقوله اردد وسواه فاعضدا
دل على أن (لن) في لغة العرب لا تفيد التأبيد.
ومن الأدلة على إبطال مقالتهم أن (لن) تفيد التأبيد: لما ذكر الله عن الكفار: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:٩٥] ((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ)) أي: الموت ((بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)) ومع ذلك يوم القيامة ينادون: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧] يطلبون الموت، فدل على أن قولهم: (لن) لا تفيد التأبيد ليست صحيحة، حتى على فرض جمعنا بين النصوص ومع ذلك جئنا بنص في كتاب الله تعالى: ((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ)) ومع ذلك نادوا مالكاً يطلبون منه أن يقضي عليهم وأن يصل إليهم الموت.
ولما جاءهم من الأدلة على إبطال مقالتهم في هذه الآية، أن موسى عليه الصلاة والسلام لما طلب من ربه أن ينظر إليه، قالوا: إن موسى ما سأل إلا أمراً يجوز له السؤال فيه، موسى عليه الصلاة والسلام حين سأل: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣] سأل أمراً يجوز له السؤال فيه، إذاً ما وجه الجواز هنا؟ قالوا: إن نوحاً عليه الصلاة والسلام لما سأل قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:٤٥] أليس رد عليه الرب، قال له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:٤٦] فلو كان سؤال موسى ليس صحيحاً لبين الله سبحانه وتعالى لموسى أنه ما كان ينبغي لك أن تسأل الرؤية؛ لأنها لا تجوز رؤيتي أصلاً، والله قال هنا: ((لَنْ تَرَانِي)) ولم يقل: إني لا أرى، أو إنه لا يمكن رؤيتي أبداً، بل قال: ((لَنْ تَرَانِي)) أي: لن تراني في الدنيا، ولكنك ستراني في الآخرة، مما يدل على بطلان ما ذهب إليه هؤلاء المبتدعة في قولهم: إن الله سبحانه وتعالى لا يرى.
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في الصواعق ردوداً كثيرة جداً في هذه الآية تصل إلى خمسة عشر رداً تقريباً، باستنباط وإبطال استدلال المبتدعة من الخوارج والمعتزلة في نفي الرؤية، قالوا: لما سأل موسى عليه الصلاة والسلام رؤية الله تجلى الله للجبل، قالوا: أيهما أفضل: موسى أم الجبل؟ لا شك أن موسى عليه الصلاة والسلام أفضل، فإذا تجلى الله للجبل فمن باب أولى أن يرى موسى ربه، ويتجلى له يوم القيامة فيراه.
وبُين أن الناس في الدنيا لن يروا ربهم؛ والسبب أنهم لا يستطيعون، قالوا: فإذا كان الجبل عندما تجلى الرب سبحانه وتعالى له أصبح دكاً، وخر موسى صعقاً من هول ما رأى، لكنهم يوم القيامة يرون ربهم، بل أعظم نعيم أهل الجنة رؤية الرب سبحانه وتعالى، وهذا من فضل الله تعالى على أهل الإيمان أنهم يؤمنون بهذا الفضل، ويسألون ربهم دائماً أن يكونوا ممن يروه، وألا يحجبوا عنه سبحانه وتعالى.
ننتقل إلى الآية الأخرى في قوله تعالى: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:٢٣] استدل بها أهل السنة على إثبات رؤية الله تعالى، قالوا: فإنه قد ورد أن أهل الجنة يرون أشياء كثيرة يرون نعيمهم وما أعد الله لهم، ويرون مثلما قال من قال: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:٥١] فأراد من إخوانه أن يطلعوا إليه وأصبح يراه {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:٥٦-٥٧] أي: معك في النار، ولكن من فضل الله أن هداني إلى هذا الدين، والإسلام فكنت من أهل الجنة ولم أكن معك.
ومما يراه أهل الجنة الرب سبحانه وتعالى، فيصبح أعظم نعيم يراه أهل الجنة هو رؤية الرب سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أنهم ينظرون إلى ربهم سبحانه وتعالى.
وذكروا منها قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] والعجب من المبتدعة كيف