للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فضل العلم وأهله]

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: في مقدمة شرحنا لـ لامية شيخ الإسلام وتسمى (عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى) أود أن أنبه على أهمية العلم وفضله.

فقد ورد في فضل العلم آيات وأحاديث، وليس درسي هو بيان فضل العلم، ولكني أحث الأحبة جميعاً أن يبدءوا قبل بدايتهم في هذه الدورة، حبذا لو أنهم قرءوا خمسة كتب في آداب طالب العلم؛ وذلك لأهميتها؛ نظراً لأننا نرى كثيراً من الشباب ينطلقون إلى حلق العلم انطلاقاً عاطفياً، فسرعان ما يسمع فضل العلم وأهميته، ثم تراهم جثوا بالركب في المساجد أسبوعاً أو أسبوعين، وربما بلغوا شهراً أو شهرين، ثم انعطفوا عن الطريق وعن المواصلة، ولعل السبب في ذلك أعزوه إلى أمرين: الأمر الأول: أن الواجب عليهم أن يدرسوا كتباً في آداب الطلب، خاصة الكتب المتقدمة، وكم هي -ولله الحمد- متوفرة في الأسواق، يمكن للإنسان أن يطلع عليها ويقرأها، وتكون تلك القراءة ليست قراءة عاطفية، وإنما قراءة المتمعن المستفيد، ليعلم خبر العلم الذي يطلبه، وفائدته وثمرته.

الأمر الثاني: أن كثيراً من الأحبة لعلهم لا يقرءون سير العلماء وطلاب العلم الذين مضوا، وسير بعض العلماء وطلاب العلم في عصرنا وفي حاضرنا، وكم الشباب في حاجة إليها حاجة صادقة، وكم هي كتب التراجم والسير التي كتبت عن العلماء، وعن حياتهم، وأوقاتهم، وعلمهم، ومشايخهم، وطريقتهم، وظروفهم إلى غير ذلك، فقراءة تلك تغرس في النفس همماً عالية في مواصلة الطلب والاستمرار عليه.

وأقول للأحبة: إننا ربما نحضر حلقات للعلم، ولكننا نحضر لها مدة معينة، ثم نجد من أمثلة ذلك: تلك الدورات التي أعتبرها أو أراها في نفسي أنها من الترقيع وليست من التأصيل، وأرى أن طالب العلم ينبغي له أن يجثو بركبتيه عند العلماء وطلاب العلم سنين عديدة، فلا يكفي مجرد دورة يحضرها لمدة أسبوعين أو ثلاثة أو شهر أو شهرين، فتلك أسميها مفاتيح فقط، وهي جرعات تُعطى لطالب العلم لينطلق بعدها للمواصلة، ليس ليعتمد عليها على أنه حصل العلم كله، وعلى أنه استفاد من العلوم كلها بمجرد حضور وقت، ولكنها شحذ للهمم، وفتح للمدارك، وبيان لفضل العلم وأهميته، والمواصلة في الطريق، ولنعتبرها زاداً، لكنه ليس زاداً يستمر إلا في الاستمرار في المواصلة في حضور حلقات العلم.

واقرءوا في تراجم السلف رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم، تجد فيها أنه يقال: إنه لازم شخص شيخه عشرين سنة! جاثياً بركبتيه عند شيخه لا يفلت عنه، ولازم العلماء دهراً طويلاً إلى غير ذلك، وقلت: نحن بحاجة إلى دراسة حياة سلفنا رحمهم الله ورضي عنهم.

قضية فضل العلم: في الذهن أنني أتحدث في مقدمة كل درس شحذاً للهمم للمواصلة، وعلها أن تكون مفاتيح خير، وتكون نواة للاستمرار في الطلب، ومعرفة قيمة العلم وثمرته وأهميته في واقع الناس.

قضية فضل العلم قد ذكر الله في غير ما آية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:١٨] وكما في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:١١٤] يقول الإمام القرطبي: لو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه المزيد منه، فلم يوجد شيء أفضل من العلم.

ولذا قال العلماء رحمهم الله تعالى: "إن طلب العلم أفضل من جميع نوافل العبادات" فجلوسك للعلماء ولطلب العلم والقراءة والتحصيل أفضل من صيام الإثنين والخميس، وأفضل من قيام الليل، وأفضل من كثير من العبادات، بل ربما يكون طلب العلم الذي يحصله الإنسان ويجثو على ركبتيه أفضل من الذهاب إلى العمرة والحج نافلةً وغيرها؛ لأن العلم لا يعدله شيء أبداً.

وسبحان الله! موسى كليم الرحمن يطلب أن يزداد علماً حين سأل الخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:٦٦] وأيهما أفضل: موسى أم الخضر؟ نحن نعلم بأن موسى لا يفضله الخضر أبداً ولن يفضله، ومع ذلك لما آتاه الله شيئاً من العلم سأله سؤال المتأدب المتلطف معه: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:٦٦] وبعد ذلك واصل موسى، ولكن كما قال محمد صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى ليته صبر، لنعلم من أخبار الخضر وأعاجيبه) .

ولعل من اللطائف في قصة موسى مع الخضر، وفيها دروس وآداب لطالب العلم عجيبة جداً، وكم يستنبط العلماء منها من الآداب، ذكر ابن كثير وذُكر في الصحيح وغيره في أصل هذه القصة: أن موسى عليه الصلاة والسلام خطب في بني إسرائيل بعد أن ذكرهم: إني لأعلم أهل الأرض، فعتب الله عليه، ثم بين له أنه يوجد في الأرض من هو أعلم منه، وسأل ربه أن يستفيد منه، وإذا هو الخضر، مشى موسى مع الخضر وفي آخرها بعد أن علَّمه الخضر الأحداث الثلاثة وأسبابها، كان معه على السفينة فوجد طيراً ينقر في البحر، فقال الخضر لموسى عليه الصلاة والسلام: يا موسى! إنما علمي وعلمك في علم الله تعالى كمثل ما نقر هذا الطير من هذا البحر.

فمهما حصلت من العلم ستجد أنه ليس عندك شيء، وسبحان الله! كلما ازداد الإنسان علماً ازداد معرفة بجهله إذا كان صادقاً في الطلب والعلم، ولكن مشكلتنا أن الإنسان يقرأ كتاباً أو كتابين ويحفظ متناً أو متنين، ثم يتصدر للناس بمسائل تبصير وتوجيه وإفتاء وشرح للمتون وقراءة للمطولات، وهو لم يؤسس القواعد التي نعتبرها كما قال سلفنا من قبل: (من حفظ المتون حاز الفنون) .

ولعل الأحبة يرون أننا أخذنا متناً صغيراً وهو لا يجاوز (١٥) بيتاً، وفي بعض النسخ (١٦) بيتاً، ولكني أعتبر أنه يجب علينا أن نعلم أنه لا بد أن نبدأ بالمتون لنؤسس بها، ثم ننطلق على ضوء تلك في الاستفادة والتحصيل.

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري ومسلم من حديث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) وتكلم العلماء على هذا الحديث كلاماً عظيماً عجيباً، وأخذوا بمفهومه المعاكس أن من لم يطلب العلم فإنه لم يرد الله به الخير حتى ولو كان هذا الإنسان على توجيه وعلى حرص على الخير والاستقامة، لكن هذا الخير الذي ميز الله به العلماء وطلاب العلم نعتبره اصطفاءً ربانياً يؤتيه الله من يشاء {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:٤] .

وأقول للأحبة: إن هذا الحديث الذي سأذكره يجب أن نستشعره دائماً في حضورنا لحلقات العلم، وجثونا بالركب للاستفادة والتحصيل، فقد ثبت من حديث أبي الدرداء الذي رواه أبو داود والترمذي وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني وهو حديث: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) .

أخي المسلم: إنك إذا انطلقت لدرسٍ أو لعلم -وأخاطب أحبتي الذين يدرسون في الكليات الشرعية- هل إذا انطلقت تشعر بأنك تمشي في طريق الجنة، وتبحث عن رضا ربك، وأنك تريد من هذا العلم فائدةً وتحصيلاً ترفع الجهل عن نفسك، ثم تعمل بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تبلغ ما علمت إلى الناس وتوصله إليهم، أم أنك تذهب وترجع بمجرد الحضور والبركة؟ لا شك أن حضور حلقات العلم ولو لم يستفد الإنسان شيئاً كما ثبت في الصحيح: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وهنيئاً لأولئك الذين يحضرون حلقات العلم، ولو لم يكن لهم تخصصاً شرعياً، فالعلم الشرعي ليس خاصاً بطائفة معينة، وليس لصنفٍ معين، لا للصغير ولا للكبير، وليس لطلاب الكليات الشرعية فقط، بل كل من جثا بركبتيه في المساجد لطلب العلم فإنه يحظى بما ورد من الفضائل في القرآن والأحاديث، وفي غيرها من كلام السلف في فضل العلم وأهميته، ولذلك فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) ومن يوازي محمد صلى الله عليه وسلم؟! وإنما هذا من باب التشبيه؛ شحذاً للهمم من حضور حلقات العلم والاستفادة منها؟ وهذا الحديث قد رواه الإمام الترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع) في سجودك وفي آخر تشهدك سل ربك دائماً أن يرزقك علماً نافعاً، وكم من الناس قد يؤتون علماً ولكنهم لا يستفيدون منه شيئاً، ولا يفيدونه لغيرهم، ولذلك لما وصف الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى علماء أهل الكلام، قال: أوتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاءً، ولما ترجم الإمام الذهبي رحمه الله تعالى لأحد علماء أهل الكلام قال: إنه من بحور العلم، لكنه قال بعدها: من بحور العلم الذي لا ينفع؛ لأنه بعيد عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعيد عما كان عليه سلف الأمة، فلا يستفد من ذلك العلم شيئاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>