النفس مستقبح في العقل، وهذا الجاهل إنما استقبحه لكونه جاهلاً أن لنفوسنا خالقاً بأمره نستبقيها وبأمره يقيها وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو معادا إلى دار فيها حياة سرمدية كما قال:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} وإن قتلها بأمره يوصله إلى حياة خير منها ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه ووال على بلد يسوسه، وأنه مهما استرده [يعاد] فلا فرق بين أن يأمره بخروجه بنفسه أو يأمر غيره بإخراجه ومن تصور هذه الجملة علم أن الإنسان إنما أنكر له قتل نفسه في الدنيا لأنه كالراجع عن الثغر إلى حضرة صاحبه قبل استرداده، وإذا أمره أن يقتل نفسه - فقد رجع عنه بأمره وذلك ظاهر لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما وقوله:{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} الإشارة به إلى التوبة وقتل النفس ولما كان الشيء قد يكون خيراً عند الاعتبار بالدنيا شراً عند الاعتبار بالآخرة، وقد يكون على عكس ذلك.
بين تعالى بقوله:{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أن ذلك خير بالاعتبار بالأمور الإلاهية
إن قيل: لم أعاد ذكر " بارئكم "؟
والإتيان بالضمير في مثله أحسن؟ قيل: إنما يحسن الضمير إذا لم يشتبه ولم يقصد بالتكرير تعظيم الأمر، وكان ذلك في جملة واحدة أو ما حكمه حكم الجملة الواحدة، فأما إذا لم يكن كذلك فتكريره أحسن وقد حصل ههنا الأحوال الثلاث فإنه جرى ذكر موسى والعجل فلو قيل عنده: يصح توهم إرادة أحدهما ثم قد علم أن المقصود في مثل هذا الموضع تفخيم الامر ثم قوله: (ذلك خير لكم) جملة أخرى غير الأولى ..