في القرآن خاصة من الإيجازات والحذف مما ليس في غيره من الكلام، ولما فيه من اللفظ " اليسير " المنطوي على المعنى الكثير، قال عليه الصلاة والسلام:" أوتيتُ حوامعَ الكلام "، فمن مثال الإيجاز: قوله تعالى في وصف ارتفاع الأسباب المكروهة عن أوليائه {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فنفى بذلك كل تنغيص إذا كان جميعه في حصول مكروه وفوت محبوب، وقد نفاهما بذلك، وقال في فاكهة أهل الجنة {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}، فنفى بذلك جميع الآفات العارضة لمطاعم الدنيا، وقال في صفة خمرهم:{لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ}، فنفى بذلك كل مكروه يعرض فيها، وأخبر بكل ما كان من أمر فرعون وآله بألفاظ يسيرة، وذلك في قوله: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}.
فذكر فيه ما قيل إنه ينطوي عليه " من " أوراق وجلود من السفر، ومن عجيب ما فيه أن كل ما علم (بالسامع استغناء عنه) من الألفاظ ترك ذكره وتخطى إلى ما بعده نحو قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ}، فترك ما كان من موسى، ثم ترك ما كان منه ومن أصحابه في دخولهم البحر، وتخطى إلى ذكر ما صنع بهم، وأما الراجع إلى المعنى: فذكره تعالى - أصولاً منطوية على فروع بعضها بينه النبي عليه السلام، وبعضها فوض استنباطه إلى الراسخين في العلم تشريفاً لهم وتعظيماً لمحلهم، لكي يقرب منزلة علماء هذه الأمة " من " منزلة الأنبياء في استنباطهم بعض الأحكام، ولاختصاص هذه الأمة بهذه المنزلة الشريفة قال عليه الصلاة والسلام:" كادت أمتي تكون أنبياء "، وعلى ذلك قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} - الآية - وقال:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فجعلهم في ذلك بمنزلة الأنبياء ...