بين التهور والجبن، ثم جعل عبارة عن المختار من كل شيء حتى قيل: فلان من أوسطهم نسبياً، وكما جعلهم وسطاً جعلهم خيرا في قوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} والعقب مؤخر القدم، فتصور مكانه من الحيوان تارة، فاعتبرت في قولهم: يعقبه واعتقبه نحو: استدبره، وقفاه، وعاقب الليل النهار، وقيل المعقبات للملائكة التي تتعاقب في الليل والنهار والعقوبة منه، والعقبة الجبل اعتبارا بالصاعد الذي يميل [نحو عقبة] في ممره، ولما كان يؤخذ العقب من بعض الحيوانات فيشد به، قالوا: عقبته: أي شددته بالعقب نحو دسته وانقلب على عقبيه إذا رجع عائداً نحو: ارتدا على آثارهما، ورجع عوده على بدئه.
إن قيل: كيف جعلهم وسطا؟ الخُلق أم لخلْقِ خصهم به؟ أم لعلم ركزه فيهم؟ أم لشرع شرعه لهم؟.
قيل: قد خصهم بكل ذلك، والظاهر من ذلك هي الشريعة التي إدا اعتبرت بسائر الشرائع وجد لها حد الاعتدال، وهو أن بني إسرائيل لما عتوا كما حكى الله عنهم في غير موضع شدد عليهم أشياء صارت عليهم إصرا وأغلالاً، نحو:{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}، ولذلك أمرنا تعالى فيما يدعونه أن نقول {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، ثم خفف عنهم على لسان عيسى بعض التخفيف، ولهذا حكى عنهم:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، وتمم ذلك بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقال:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} إلى قوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}، وقال عليه السلام " بعثت بالحنيفية السهلة "، فصارت شريعته متوسطة بين الإفراط الذي هو الإصر والأغلال وبين التفريط الذي هو