أنه تجاوز الحد الذي حده العقل أو الشرع، والذي منع تجاوز ذلك ابتداء، فقد أباح لمن اعتدى عليه جزاء، فإذن: الاعتداء ضربان: اعتداء على سبيل الابتداء، وهو ظلم، وإياه عنى بقوله ولا (تعتدوا) واعتداء على سبيل الاعتداء ضربان اعتداء على سبيل القصاص وهو عدل وإياه عني ههنا، ثم للمجازاة أيضا حد لا يحوز أن يتجاوزه، وإياه عنى بقوله:(فمن اعتدى بعد ذلك).
إن قيل: هل كان يجوز لو قيل: (من ظلمكم فاظلموهم)؟ قيل: لا يجوز ذلك، لأن الظلم إنما هو وضع الشيء في غير موضعه الذي يحق أن يوضع فيه، وهذا في كل حال مذموم، والاعتداء مجاوزة الحد المحدود، وذلك لا يكون مذموما، ومن قال من العرب:" من ظلمك فاظلمه "، فذلك منه انحراف وترخص في الظلم على عادتهم، وكذا قول من قال:
ألا لا يجهلن أحد علينا ...
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فإن الجهل مذموم على كل حال، ولا يكاد يرد لفظ الأمر به من حكيم،
فإن قيل: فقد قال الله: {ومكروا ومكر الله} قيل: حقيقة المكر إظهار أمر يعتقد فيه الناظر إليه الجاهل بحقيقته اعتقادا ما يضل ما هو، وكذلك الاحتيال والخديعة والسخرية ومن قصد بشيء من ذلك أمرا قبيحا، فهو مذموم وأن قصد به فعلاً جميلاً فهو محمود، فإذن يصح أن يمدح بذلك من يتحرى مقصدا حسنا، ولهذا قال بعض العلماء: إن الله - عز وجل - يخدعنا عن النار كما يخدع الصبي أبوه عن المضار، وفي هذه الآية دلالة أن من استهلك شيئا لغيره استهلك عليه مثله، لكن مثله المستهلك قد يكون تارة حسية مكيلا كان أو موزونا أو معدودا، وتارة قيمته، وقوله:{واعلموا أن الله مع المتقين}، تنبيه أن توفيق الله يصحب المتقي، وقد تقدم حقيقة (مع) والصحبة إذا استعملا في الباري تعالى ...