للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فجذبت نفسها من أيديهم، وأنشدت:

من مات عشقاً فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت وألقت نفسها في الحفيرة على دماغها فماتت (١) . فسري عن محمد وأجزل صلتي. وقال أبو القاسم السيرافي: حضرنا مجلس الأستاذ أبي الفضل ابن العميد الوزير - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فجرى ذكر الجاحظ، فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به، وسكت الوزير عنه، فلما خرج الرجل قلت له: سكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله مع عادتك في الرد على أمثاله، فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو وافقته وبينت له لنظر في كتبه وصار بذلك إنساناً يا أبا القاسم، فكتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً، ولم أستصلحه لذلك.

وكان الجاحظ في أواخر عمره قد أصابه الفالج، فكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الأيسر لو قرض بالمقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده. وكان يقول في مرضه: اصطلحت على جسدي الأضداد. إن أكلت بارداً أخذ برجلي، وأن أكلت حاراً أخذ برأسي. وكان يقول: أما من جانبي الأيسر مفلوج فلو قرض بالمقاريض ما علمت به، ومن جانبي الأيمن منقرسٌ فلو مر به الذباب (٢) لألمت، وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها وأشد ما علي ست وتسعون سنة، وكان ينشد:

أترجو أن تكون وأنت شيخٌ ... كما قد كنت أيام الشباب

لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريسٌ كالجديد من الثياب وحكى بعض البرامكة قال: كنت تقلدت السند، فأقمت بها ما شاء الله، ثم اتصل بي إني صرفت عنها، وكنت كسبت بها ثلاثين ألف دينار، فخشيت أن يفجأني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه، فصغته عشرة آلاف إهليلجة في كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل؛ ولم يمكث الصارف أن أتى، فركبت


(١) انظر كتاب ذم الهوى: ٣٥٦.
(٢) ر: مرت به الذبابة.

<<  <  ج: ص:  >  >>