للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هي إن الذين تحسدهم على ما مدحوا به كانوا من طينتك، وإن الذين هجوا كانوا مثلك، فزاحم بمنكبك أعظهم سناماً وأنورهم شعاعاً، وأشرفهم بقاعاً، فحار ابن العميد وشده ولم يدر ما يقول، فاطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: هذا وقت يضيق عن الإطالة منم في الاستزادة، وعن الإطالة مني في المعذرة، وإذا تواهبنا ما دفعنا إليه استأنفنا ما نتحامد عليه، فقال ابن نباتة: أيها الرئيس، هذه نفثة صدر دوي (١) منذ زمان، وفضلة لسان قد خرس منذ دهر، والغني إذا مطل لئيم، فاستشاط ابن العميد، وقال: والله ما استوجبت هذا العتب من أحد من خلق الله تعالى، ولقد نافرت العميد من دون ذا حتى دفعنا إلى قري عائم ولجاج قائم، ولست ولي نعمتي فاحتملك، ولا صنيعتي فأغضي عليك، وإن بعض ما أقررته في مسامعي ينقض مرة الحليم ويبدد شمل الصبر، هذا وما استقدمتك بكتاب ولا استدعيتك برسول، ولا سألتك مدحي ولا كلفتك تقريضي؛ فقال ابن نباتة: صدقت أيها الرئيس ما استقدمتني بكتاب ولا استدعيتني برسول، ولا سألتني مدحك ولا كلفتني تقريضك، ولكن جلست في صدر ديوانك بأبهتك وقلت: لا يخاطبني أحد إلا بالرياسة، ولا ينازعني خلق في أحكام السياسة، فإني كاتب ركن الدولة وزعيم الأولياء والحضرة، والقيم بمصالح المملكة، فكأنك دعوتني بلسان الحال ولم تدعني بلسان المقال، فثار ابن العميد مغضباً وأسرع في صحن داره إلى أن دخل حجرته، وتقوض المجلس وماج الناس، وسمع ابن نباتة وهو في صحن الدار ماراً يقول: والله إن سف التراب والمشي على الجمر أهون من هذا، فلعن الله الأدب إذا كان بائعه مهيناً له، ومشتريه مماسكاً فيه. فلما سكن غيظ ابن العميد وثاب إليه حلمه التمسه من الغد ليعتذر إليه ويزيل آثار ما كان منه، فكأنما غاص في سمع الأرض وبصرها، فكانت حسرة في قلب ابن العميد إلى أن مات.

ثم إني وجدت هذه القصيدة وصورة هذا المجلس منسوبين إلى غير ابن نباتة، وكشفت ديوان ابن نباتة فلم أر هذه القصيدة فيه، والله أعلم بالصواب، ثم


(١) ق ر والمختار: ذوى.

<<  <  ج: ص:  >  >>