ولم يزل أبو نصر ببغداد مكباً على الاشتغال بهذا العلم والتحصيل له إلى أن برز فيه وفاق أهل زمانه، وألف بها معظم كتبه، ثم سافر منها إلى دمشق، ولم يقم بها، ثم توجه إلى مصر، وقد ذكر أبو بصر في كتابه الموسوم بالسياسة المدنية، أنه ابتدأ بتأليفه في بغداد وأكمله بمصر، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها، وسلطانها يومئذ سيف الدولة بن حمدان، فأحسن إليه.
ورأيت في بعض المجاميع أن أبا نصر لما ورد على سيف الدولة وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف فأدخل عليه وهو بزي الأتراك، وكان ذلك زيه دائماً، فوقف، فقال له سيف الدولة: اقعد، فقال: حيث أنا أم حيث أنت فقال: حيث أنت، فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك، وله معهم لسان خاص يسارهم به قل أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني مسائله عن أشياء إن لم يوف بها فاخرقوا به، فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير (١) ، اصبر فإن الأمور بعواقبها، فعجب سيف الدولة منه وقال له: أتحسن هذا اللسان فقال: نعم أحسن أكثر من سبعين لساناً، فعظم عنده. ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده، ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، فصرفهم سيف الدولة وخلا به، فقال له: هل لك في أن تأكل فقال: لا، فقال: فهل تشرب فقال: لا، فقال: فهل تسمع فقال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر وقال له: أخطأت، فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصناعة شيئاً فقال: نعم، ثم أخرج من سوطه خريطة ففتحها وأخرج منها عيداناً وركبها، ثم لعب بها، فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر وضرب بها فبكي كل من في المجلس، ثم فكها وغير