للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقل رث الحال، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه، فقال: يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة، فإن أبا حنيفة خبزه مشوي، وأنت تحتاج إلى المعاش، فقصرت عن كثير من الطلب وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فجعلت أتعاهد مجلسه، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه قال لي: ما شغلك عنا قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي، فجلست، فلما انصرف الناس دفع إلي صرة وقال: استمتع بها، فنظرت فغذا فيها مائة درهم، فقال لي: الزم الحلقة وإذا فرغت هذه فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما مضت مدة يسيرة دفع إلي مائة أخرى، ثم كان يتعاهدني، وما أعلمته بخلة قط ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه كان يخبر بنفادها، حتى استغنيت وتمولت.

ثم قال الخطيب (١) : وحكي أن والد أبي يوسف مات وخلف أبا يوسف طفلاً صغيراً، وأن أمه هي التي أنكرت عليه حضور حلقة أبي حنيفة، ثم روى الخطيب أيضاً بإسناد متصل إلى علي بن الجعد قال: أخبرني أبو يوسف القاضي قال: توفي أبي وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة حلقة أبي حنيفة فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي فتأخذ بيدي فتذهب [بي] إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعنى بي، لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وكطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة: مري يا رعناء، ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق، فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك. ثم لزمته فنفعني الله تعالى بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون فالوذجة، فقال لي: يا يعقوب كل منها فليس في كل يوم يعمل لنا مثلها، فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين فقال: هذه فالوذجة بدهن الفستق،


(١) المصدر نفسه.

<<  <  ج: ص:  >  >>