فاعتذر بقلة المال عنده، فقال له بعضهم: من يريد يحفظ مثل حلب يخرج المال، ولو باع حلي نسائه، فمال حينئذ إلى تسليم حلب لصلاح الدين ويأخذ عوضها سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج، وجرت اليمين على ذلك فتسلمها صلاح الدين ثامن عشر صفر ونزل عنها عماد الدين، فعجب الناس من ذلك وقبحوا على عماد الدين فعله حتى إن بعض عامة حلب أحضر إجانة وماء وناداه: أنت لا يصلح لك الملك وإنما يصلح لك أن تغسل الثياب، وإذا أراد الله أمراً فلا مرد له؛ وتقرر عماد الدين أن يكون في خدمة صلاح الدين متى استدعاه.
ومن عجيب الاتفاقات أن محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق مدح صلاح الدين بقصيدة منها:
وفتحك القلعة الشهباء في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب وكذا كان، فإن القدس فتح في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ومما كتبه القاضي الفاضل في المعنى: أعطيناه عن حلب كذا وكذا وهو صرف على الحقيقة: أخذنا فيه الدنانير وأعطيناه الدراهم ونزلنا عن القرى وأحرزنا العواصم.
وكان في جملة من قتل على حلب تاج الملوك أخو صلاح الدين الأصغر وقد تقدم ذكره. وانتقل عماد الدين المذكور في السنة المذكورة إلى سنجار ولم يزل بها إلى أن توفي في المحرم سنة أربع وتسعين وخمسمائة.
(٤٢) وملك ابنه قطب الدين محمد وتولى تدبير دولته مجاهد الدين يرنقش مملوك أبيه، وكان ديناً خيراً عادلاً حسن السيرة كثير البر والإحسان للفقراء، إلا أنه كان شديد التعصب على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، كثير الذم للشافعية، وكان بخيلاً؛ فمن تعصبه على الشافعية أنه بنى مدرسة للحنفية بسنجار وشرط أن يكون النظر للحنفية من أولاده دون الشافعية، وأن يكون البواب والفراش على مذهب أبي حنيفة.