للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَتْ قَبْلَهُ [وَبِهَذَا كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا قَبْلَ الْفِعْلِ الْقُدْرَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْأَمْرِ الَّتِي بِهَا يُفَارِقُ الْعَاجِزَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغَابُنِ الآية: ١٦]، وَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آلِ عِمْرَانَ الآية: ٩٧]، وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [الْمُجَادَلَةِ الآية: ٤]. فَإِنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ [إِلَّا] مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ، لَمْ يَجِبِ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَلَا وَجَبَ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ، وَلَكَانَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَصُمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ لِلصِّيَامِ، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ هَذِهِ النُّصُوصِ وَخِلَافُ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

فَمَنْ نَفَى هَذِهِ الْقُدْرَةَ مِنَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ، وَزَعَمَ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ، فَقَدْ بَالَغَ فِي مُنَاقَضَةِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا تَكُونُ الِاسْتِطَاعَةُ إِلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ.

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَخْطَئُوا حَيْثُ زَعَمُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ كُلَّ مَا يَقْدِرُ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فَقَدْ سَوَّى اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، بَلْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِيَهُ لِلْعَبْدِ مِمَّا بِهِ يُؤْمِنُ وَيُطِيعُ.

وَهَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ قَطْعًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي جَمِيعِ أَسْبَابِ الْفِعْلِ، لَكَانَ اخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِالْفِعْلِ دُونَ الْآخَرِ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ. وَهَذَا هُوَ أَصْلُ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْفَاعِلَ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ طَرَفَيْ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ وَإِنْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ.

وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ لِلْقَدَرِ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، قَالُوا: إِنَّ الْقَادِرَ لَا يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>