ويرى جميع الخلق في قبضة القهر ليس بيدهم شيء من الأمر، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب، والدرجة الثالثة ألّا يرى في الوجود إلّا الله وحده فيغيب عن النظر إلى المخلوقات، حتى كأنها عنده معدومة. وهذا الذي تسميه الصوفية مقام الفناء بمعنى الغيبة عن الخلق حتى أنه قد يفنى عن نفسه، وعن توحيده: أي يغيب عن ذلك باستغراقه في مشاهدة الله
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية ذكر فيها ثمانية أصناف من المخلوقات تنبيها على ما فيها من العبر والاستدلال على التوحيد المذكور قبلها في قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي اختلاف وصفهما من الضياء والظلام والطول والقصر، وقيل إن أحدهما يخلف الآخر بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من التجارة وغيرها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ إرسالها من جهات مختلفة، وهي الجهات الأربع، وما بينهما وبصفات مختلفة فمنها ملقحة للشجر، وعقيم، وصر، وللنصر، وللهلاك.
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين: إحداهما: المحبة العامة التي لا يخلو منها كل مؤمن، وهي واجبة، والأخرى: المحبة الخاصة التي ينفرد بها العلماء الربانيون، والأولياء والأصفياء، وهي أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإنّ سائر مقامات الصالحين: كالخوف، والرجاء، والتوكل، وغير ذلك فهي مبنية على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، وأن الراجي إنما يرجو منفعة نفسه بخلاف المحبة فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة، واعلم أنّ سبب محبة الله معرفته فتقوى المحبة على قدر قوّة المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإنّ الموجب للمحبة أحد أمرين: وكلاهما إذا اجتمع في شخص من خلق الله تعالى كان في غاية الكمال. الموجب الأوّل الحسن والجمال، والآخر الإحسان والإجمال، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع، فإنّ الإنسان بالضرورة يحب كل ما يستحسن، والإجمال مثل جمال الله في حكمته البالغة وصنائعه البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار، التي تروق العقول وتهيج القلوب، وإنما يدرك جمال الله تعالى بالبصائر، لا بالأبصار، وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر وإنعامه عليهم باطن وظاهر، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: ٣٤] ، ويكفيك أنه يحسن إلى المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر، وكل إحسان ينسب إلى غيره فهو في الحقيقة منه، وهو المستحق للمحبة وحده.