قوله تعالى لموسى {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} معلوم أنه لم يبعث، إليه وحده، وبعض الناس اعتبر لفظ " كان "، وروي أن إبليس كان من الجن الذين سكنوا الأرض قبل آدم، وحاربهم الملائكة، وسبوا إبليس، فصار بالحكم من الملائكة، فمولى القوم منهم، وبالنسبة من الجن، فصار بصدق عليه القولان، ويجوز أن يكون عنى أنه كان من الجن فعلاً، ومن الملائكة نوعاً، وباعتبار الفعل قال تعالى:{كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
إن قيل: كيف يصح أن يكون من الملائكة نوعاً والله قد وصفهم بأنهم {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}؟ قيل: إن ذلك في وصف خزنة جهنم، وليس كون بعضهم على هذه الصفة مقتضيا أن يكون كلهم كذلك، و (كان من الجن): قيل معناه: صار ههنا، وليس ذلك بشيء، فإن (كان) استعمل (ههنا) على أحد وجهين: إما لاعتبار وقت العصيان بوقت الاختبار، ويكون بالإضافة إليه ماضياً فيجب أن يقال: كان، وإما أنه قال:{كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} - تبيهاً أن ما تقدم من طاعته غير معتد به، وأن حكمه من قبل حكم الكافرين، فمن شرط الطاعة أن لا تحبط ومن حكم الإيمان أن يمتد ويتصل،
إن قيل: كيف أمر الملائكة بالسجود لآدم ومنزلتهم فوق منزلته بدلالة أن إبليس مناه أن يكون إياهم بقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} وبعيد أن يؤمر الفاضل بالتخضع للمفضل؟ قيل: الخضوع لآدم كان خضوعاً لله تعالى من أجل الائتمار له فيما أمرهم به، وظاهر في العادات أن التذلل لخادم كبير خضوع لذلك الكبير، وأيضاً: فإن الإنسان في باب الفضائل التي ذكرناها آنفاً أفضل من الملك وإن كان الملك أفضل منه من وجوه أخر، والشيئان قد يكون كل واحد منهما أفضل من الآخر من وجه ووجه، وإنما المنكران بفضل كل واحد منها الآخر من وجه واحد، وفي الآية تنبيه على وجوب الائتمار لمن له الخلق والأمر، ومجانبة عصيانه، وارتكاب التكبر والحسد، وإنها قد يفضيان براكبهما إلى الكفر، كما روى في الخبر:" أن أول ما عصي به الله في السماء والأرض الكبر والحسد " وحث على ترك الدخول في سره والاعتراض على حكمه.