الإنشاء بالديار المصرية مدة طويلة. وكتب الكثير، وكان خطه في غاية الجودة، وكان فاضلاً أديباً متقناً، له فطرة حسنة وشعر فائق ورسائل أنيقة، وسنع الحديث بثغر الإسكندرية المحروسة على الحافظ أبي طاهر السلفي وأبي الثناء حماد بن هبة الله الحراني، وحدث وسمع الناس عليه.
وله لغز في الدملج الذي تلبسه النساء، وهو بديع في بابه فأحببت ذكره، وهو نثر:
ما شيء قلبه حجر، ووجهه قمر، إن نبذته صبر، واعتزل البشر وإن أجعته رضي بالنوى، وانطوى على الخوى، وإن أشبعته قبل قدمك، وصحب خدمك، وإن غلفته ضاع، وإن أدخلته السوق أبى أن يباع، وإن أظهرته جمل المتاع، وأحسن الإمتاع، وإن شددت ثانيه، وحذفت منه القافية، كدر الحياة وأوجب التخفيف في الصلاة، وأحدث في (١) وقت العصر الضجر، ووقت الفجر الخدر، وجمع بين حسن العقبى وقبح الأثر، هذا وإن فصلته دعا لك، وأبقى ما إن ركبته هالك، وربما بلغك آمالك، وكثر مالك، وأحسن بعون المساكين مآلك، والسلام.
قلت: وهذا اللغز قد يقف عليه من لا يعرف طريق حله، فيعسر عليه تفسيره، فيحتاج إلى الإيضاح، فأقول:
أما قوله " ما شيء قلبه حجر " فمراده قلب حروف دملج، فإنا إذا قلبنا هذه الحروف يخرج منها " جلمد " وهو الحجر، وقوله " ووجهه قمر " يريد أنه مستدير كالقمر، وقوله " إن نبذته صبر واعتزل البشر " فالبشر جمع بشرة، فالإنسان إذا ألقى الدملج عنه صبر واعتزل بشرته إذ ليس فيه أهلية المنع فهو يصبر ويعتزل المكان الذي كان فيه. وقوله " وإن أجعته رضي بالنوى " فالنوى لفظ مشترك يقع على البعد وعلى نوى التمر، وعادتهم في بلاد العراق أن يطحنوا نوى التمر والرطب والبسر ويعلفوا به البقر، وقصد هاهنا هذه التورية، فإن الدملج إذ أخرج من العضد أو من الساق فقد جاع، لأنه يكون فارغ الجوف، ويرضى بالنوى الذي هو البعد عن عضو صاحبه، ويقولون: فلان يرضى بالنوى، إذا كان فقيراً لا يجد ما يتبلغ به، فهو يجتزئ بمص النوى، وهذا يفعله أهل