حضر يوماً منها مجلسه وكان الإفشين حاضراً، فلما أرادوا الانصراف قال الإفشين: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك تطول على عبدك بالتقدم إلى الندماء أن يكونوا غداً عندي، فأمرهم المعتصم بالمسير إليه، فقال: ويجيبني سيدي إبراهيم، قال: يا عم أجبه، فصار إليه إبراهيم من غد وبكر عليه الندماء جميعاً فسر وشرب حتى سكر وكان طاغياً شديد العربدة لجوجاً فلما عمل فيه الكسر قال: يا إبراهيم غنيني صوتك الذي فيه مو مو، قال: لا أعرف هذا الصوت، قال: تغني والله أبداً كل شيء تحسنه حتى يمر هذا الصوت، قال: فغنى أصواتاً كثيرة وإلى بينها والإفشين ساكت ضارب بذقنه على صدره، ثم خطر ببال إبراهيم قول الرشيد وبكاؤه وإشفاقه عليه فغنى متفجعاً لذكره:
لم ألق بعدهم قوماً فأخبرهم ... ألا يزيدهم حباً إليّ هم فرفع الإفشين رأسه وقال: هو هو، فقال إبراهيم: أما إنك لا تدري ما استخرجه، وانصرف فقطع الغناء وأهله ولم يتغن بقية أيامه حتى اعتل العلة التي توفي فيها؛ فإنه لما ثقل دعا المعتصم صالح بن الرشيد فقال: صر إلى عمي فقد بلغني أنه أصبح عليلاً فأحضره وانصرف إليّ بخبره، قال: فصرت إليه فإذا هو شديد العلة فسلمت عليه وسألته عن حاله فقال: صر إلى الحجرة فاخلع سيفك وسوادك وعد إليّ آنس بك ساعة، ففعلت، ودعا خادماً من خدمه فأمره أن يحضر طعاماً فأكلت وهو ينظر إليّ وأتبين الأسف في عينيه، ثم دعا لي بأرطال مطبوخ عجيب فشربت، ثم قال: يا غلام ادع بنعمة وخيزرانة، وكانت نعمة تغني وخيزرانة تضرب، فجاءنا فأمر هذه فضربت وهذه فغنت ثم قال: أسندني، فأسندناه فأمر خيزرانة فحطت من طبقتها ثم اندفع يغني:
رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشبون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حال بعد حال
من رآنا فليوطن نفسه ... إنه منها على قرب زوال قال: فاستوفاه، فما سمعت قط شيئاً أحسن من غنائه فيه، ثم قال: بأبي أنت أزيدك قلت: ما أريد أن أشق عليك مع ما أراه من حالك فليتني