[ولما أسرف (١) الحجاج في قتل أسارى دير الجماجم وإعطاء الأموال، بلغ ذلك عبد الملك فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين سرفك في الدماء وتبذير الأموال ولا يحتمل أمير المؤمنين هاتين لأحد من الناس، وقد حكم عليك في الدماء في الخطإ بالدية وفي العمد بالقود وفي الأموال بردها إلى موضعها ثم العمل فيها برأيه، وإنما أمير المؤمنين أمين الله وسيان عنده منع حق وإعطاء باطل، فإن كنت أردت الناس لك فما أغناهم عنك وغن كنت أردتهم لنفسك فما أغناك عنهم، وسيأتيك من أمير المؤمنين لين وشدة، فلا يؤنسنك إلا الطاعة ولا يوحشنك إلا المعصية، وظن بأمير المؤمنين كل شيء إلا احتمالك على الخطأ، وإذا أعطاك الله الظفر بقوم فلا تقتلن جانحاً ولا أسيراً؛ وكتب في أسفل كتابه:
إذا أنت لم تترك أموراً كرهتها ... طلبت رضاي بالذي أنت طالبه
وتخشى الذي يخشاه مثلك هارباً ... إلي فها قد ضيع الدر حالبه
وإن تر مني غفلة قرشية ... فيا ربما قد غص بالماء شاربه
وإن تر مني وثبة أموية ... فهذا وهذا كله أنا صاحبه
فلا تأمنني والحوادث جمة ... فإنك مجزى بالذي أنت كاسبه
ولا تعد ما يأتيك مني وإن تعد ... يقوم بها يوم عليك نوادبه
ولا ترفعن للناس حقاً علمته ... ولا تغضبن، فاللين للناس جانبه فأجابه الحجاج: أما بعد، فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه سرفي في الدماء وتبذيري للأموال، ولعمري ما بلغت في عقوبة أهل المعصية ما هم أهله وما قضيت في أهل الطاعة ما استحقوه، فإن كان قتلي أولئك العصاة سرفاً وإعطائي أولئك المطيعين تبذيراً فليسوغني أمير المؤمنين ما سلف وليحد لي حداً أنتهي إليه إن شاء الله تعالى، ولا قوة إلا بالله، ووالله ما سلبت نعمة إلا بكفرها ولا تمت إلا بشكرها، ولا أصبت القوم خطأ فأديهم ولا ظلمتهم فأقاد بهم، ولا أعطيت إلا لك ولا قتلت إلا فيك، وأما ما أتاني من أمريك فأبينهما عزة أعظمها محنة،
(١) قارن بما في تهذيب ابن عساكر: ٦٧؛ وهذه القطعة واردة في د ص ر مع بعض اختلاف بينها.