فتى من أهل الشام عجيب الخلقة والشكل غليظ جلف جاف، فكنت أحتمل ذلك منه وكان حظي التعجبن منه، وكان يأتيني بكتب عشقية له ما رأيت كتبا أحلى منها ولا أظرف ولا أشكل من معانيها، ويسألني أن أجيب عنها فأجهد نفسي في الجوابات وأصرف عنايتي إليها على علمي أن الشامي بجهله لا يميز بين الخطإ والصواب، ولا يفرق بين الابتداء والجواب، فلما طال ذلك علي حسدته وتنبهت على إفساد حاله عندها فسألته عن اسمها فقال: بصبص، فكتبت إليها عنه في جواب كتاب منها كان جاءني به:
أرقصني حبك يا بصبص ... والحب يا سيدتي يرقص
أرمصت أجفاني لطول البكا ... فما لأجفانك لا ترمص
أوحشني وجهك كذاك الذي ... كأنه من حسنه عصعص قال: فجاءني بعد ذلك فقال: يا أبا علي ما كان ذنبي إليك وما أردت بما صنعت بي فقلت له: وما ذاك عافاك الله فقال: ما هو إلا أن وصل إليها ذلك الكتاب حتى بعثت إلي: إني مشتاقة إليك والكتاب لا ينوب عن الرؤية، فتعالى إلى الروشن الذي بالقرب من بابنا، فقف بحياله حتى أراك؛ فتزينت بأحسن ما قدرت عليه وصرت إلى الموضع، فبينا أنا واقف أنتظر مكلماً لي أو مشيراً إلي وإذا شيء قد صب علي فملأني من فرقي إلى قدمي فأفسد ثيابي وسرجي وصبرني وجميع ما علي ودابتي في نهاية السواد والنتن والقذر، وإذا هو ماء قد خلط ببول وسواد وسرجين، وانصرفت بخزى وكان ما مر بي من الصبيان وسائر من مررت به من الطنز والضحك والصياح أعظم مما جرى علي ولحقني من أهلي ومن منزلي، وشر من ذلك وأعظم من كل ما ذكرت أن رسلها انقطعت عني جملة، قال: فجعلت أعتذر إليه وأقول: إن الآفة أنها لم تفهم الشعر لجودته، وأنا أحمد الله على ما ناله وأسر بالشماتة به] (١) .
[حدث محمد بن جعفر بن قدامة عن محمد بن عبد الملك قال: كنا في مجلس
(١) زيادة من د ص لم ترد في المسودة، وانظر ديوانه: ٦٩.