نظره، لا يعترف بها أبدا: لأنها معاهدة معقودة بين المستعمر وصنيعة المستعمر، فهي لا تتعدى أن تكون معاهدة عقدها المستعمر بينه وبين نفسه.
فإذا جاءت ساعة رأينا فيها الحكومة الضالعة مع المستعمر تقول:"لابد من إلغاء المعاهدة"، وسمعنا أصوات الشعب تردد الكلمة:"لابد من إلغاء المعاهدة" فربما خيل الى الناس بل الى الشعب نفسه أحيانا، أن معنى الكلمة واحد في لسان الحكومة وفي لسان الشعب. ولكن هذا باطل، وغير معقول أيضا، بل هو ما قيل فيه:"كلمة حق أريد بها باطل".
كلمة الحكومة قاصرة على الإلغاء القانوني، واستبدال معاهدة بأخرى، لأن المعاهدة التي يراد إلغاؤها قد استنفدت أغراضها مثلا. أما الشعب فلا يذهب هذا المذهب في الإلغاء القانونى للمعاهدات بين دولتين مستقلتين، بل يريد أن لا يعترف بهذه المعاهدة، ولا بإبرام معاهدة بين الحكومات الضالعة مع المستعمر وبين الاستعمار، وأن هذه الحكومات لا تمثل إرادته، وأنه أراد أن يقول إنه عازم على أن يجعل عدم اعترافه بالمعاهدات أمرا واقعا، وإنه سيقاتل المستعمر بطريقة الشعوب في طلب الحرية .. أي بقتال المستعمر في كل زاوية وطريق، بالليل والنهار، وبكل أداة يملكها، وبكل وسيلة يطيقها، رضيت الحكومات عن ذلك أو لم ترض وما أبعد ما بين المعنيين! بل هما غرضان متناقضان.
وإذن، أليس عجيبا أن تكون طائفة الساسة الذين عقدوا معاهدة سنة ١٩٣٦، هم أنفسهم الذين يذمون هذه المعاهدة نفسها يطالبون بإلغائها! وهم أنفسهم أصحاب مبادئ المهادنة المعتدلة التي لا ترى محيصا من عقد معاهدة أخرى مع المستعمر! وهم أنفسهم الذين كانوا منذ أيام قلائل يفاوضون ويذهبون ويجيئون للاتفاق على نص يرضى الشعب فيما يزعمون! أنه لعجيب، ولكن لابد من تفسير:
انتهت الحرب الماضية، وعلمت بريطانيا أن شعب مصر والسودان، بل شعوب العالم العربي والإسلامي، تموج بآلاف من قوى مختزنة في الشباب وغير الشباب، وأنها توشك أن تنفجر، وأنه لابد من تبديد هذه الطاقة المختزنة قبل أن يحين انفجارها.