للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[فيم أكتب!]

إلى أخي الأستاذ الزيات

السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد، فقد دعوتنى فاستجبت لك، رضى بك وعنك. بيد أنى أجبتك ساخطا على نفسي، والجمرة الموقدة أبرد مسا من سخطة امرئ على نفسه. كنت عزمت أن أدع هذا القلم قارا حيث هو، في سِنَةٍ لا تنقطع، يعلوه صدأ لا ينجلى. وظللت أيامًا أسأل نفسي: فيم أكتب؟ فيم العناء والنصب؟ علام أزهق أيامى في باطل لا ينقشع؟

* * *

بقى ما كتبته لك آنفًا معلقًا يومًا كاملا، حتى خلتنى مخلفًا لك موعدى. والساعة ذكرت أمرًا: ذكرت أنى ختمت مقالاتى المتتابعة في الرسالة، منذ خمس سنوات تقريبا، بسؤال آخر: "لمن أكتب؟ " (١). وقلت يومئذ إني لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ ولم أكتب؟ ولكني أحس من سر قلبي أنى إنما أكتب، ولا أزال أكتب، لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو. أهو حي فيسمعني، أم جنين لم يولد بعد سوف يقدر له أن يقرأنى؟ ووصفت يومئذ شراذم الساسة الذين لوثوا تاريخ الحياة الإسلامية والعربية، في حيث كان الإسلام وكانت العرب. ووصفت رجال العلم المتعبدين لسادتهم من أهل الحضارة الفاسدة التي تعيش بالمكر والحقد والفجور. ووصفت أصحاب السلطان في الشرق، وهم حثالة التاريخ الإنساني، ووصفت أهل الدين، إلا من رحم ربك، الذين يأكلون بدينهم نارًا حامية. وزعمت أنى لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المطبقة المحيطة بنا، فيدفعهم حب الحياة وحب الخير، إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم.


(*) الرسالة، السنة الحادية والعشرون (العدد ١٠١٨)، ٥ يناير ١٩٥٣، ص: ٩ - ١١
(١) عدد الرسالة: ٧٦٦ في ٢٦ ربيع الآخر سنة ١٣٦٧، ٨ مارس سنة ١٩٤٨