ثم انبثقَ بثقٌ آخر، فظن بعضُ المغالين أنّ المذهب الذي سلكه المستشرقون في التصحيح، هو المذهبُ لا مذهبَ غيره، وجعلوا يَنْعَونَ على مَنْ يخالفهم من أصحاب اللسان العربي في طريقة نشر الكتب العربية. ومع ذلك فهم على الحق في بعض ما يقولون، ولكنه ليس كل الحقّ، فإن المستشرقينَ لم يذهبوا هذا المذهب، ولم يقفوا هذا الموقف من اختلاف النُّسخ، إلا لعجزهم عن ترجيح بعض الكلام العربيّ على بعض، وذلك لعِلَل بيّنة: أولها جهلهم بالعربية على التمام، فإن تمامَ العربية هو السليقة التي لا تكتسب، كما أن تمام الإنجليزية والفرنسية هو السليقةُ والنشأة والاندماج في الوسط الإنجليزي أو الفرنسي من بدءِ المولد والحضانة، والثاني أنه قَلَّما يوجد فيهم المتخصص في فقه علم بعينه حتى يكونَ حجّة فيه، اللَّهمَ إلَّا أن تكونَ الحجة -عندهم- في جمع نصوص كثيرة في موضوع واحد من كتب شتى، ولكنهم لا يدّعون أبدًا أنهم أصحاب رأي في البيان والتأويل والترجيح.
[رسالة الشافعي]
ويجب أن نضرب المثل هنا "برسالة الشافعي" التي طبعها العالم الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر، فهو طبعها عن أصول مخطوطة ومطبوعة، وأقدمها نسخة بخط الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي وراوي كتبه. فالأستاذ الشيخ شاكر حجة في علم الحديث النبوي، وفقيهٌ مُتْقِنٌ للسنة التي هي أصل من أصول الدين، فلمّا تناولَ "الرسالة" يُعدّها للطبع لم يترُك شاردة ولا هائمةً من اللفظِ إلا رَدَّها إلى مكانها من عربية الشافعي وأصوله التي في كتبه، وأثبت الاختلاف ورجح بعضه على بعض، وعمل في ذلك عمل العقل المفكّر بعد أن ضبط كل اختلاف رآه إلى غير ذلك من أبواب التحرير والضبط. فإذا أنت قرأت الأصل دون التعليق رأيته قد سلم من كل عيب، وصار بيانًا كله، بعد أن كان في الطبعة الأولى من "الرسالة" شيئًا متخالفًا يتوقف عليه البصير، فما ظنك بسائر الناس ممن يقرأ وليس له في هذا العلم قديم معرفة أو مشاركة؟ وأنت إذا قارنت هذه الرسالة بأي كتاب من الكتب التي أتقنها أصحابُها من ثقات المستشرقينَ، وجدت الفرق