أدق تعريف للغة وأوجزه. فيما أعلم، هو ما جاء في كتاب الخصائص لابن جنى من أنها:"أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"، وهو على إيجازه مغن عن التفصيل، ومصيب حد المقطع في الخلاف، ومساير لمدارج اللغات منذ نشأتها الأولى إلى أن صارت أوضاعًا محفوظة يقاس عليها. ففيه تحديد الصوت، وهو أصل الكلام المنطوى كله، وفيه ذكر الجماعة، وهم القوم الذين يتفاهمون بينهم بهذه الأصوات المختلفة، وفيه ذكر الأغراض، وهي حاجات المجتمع الذي يتفاهم بتلك الأصوات المعينة وهذه هي حقيقة كل لغة في كل زمان وفي كل مكان وبين كل جماعة.
ولما كانت أداة الصوت، وهي الحلق واللسان وما يكتنفهما، هي بطبيعتها مختلفة في الناس على تباينهم منذ كان الناس، وكانت الأعراض والعلل التي تلحقها تزيد الاختلاف كثرة وشدة، كانت الأصوات المعبرة عن الأغراض عرضة للتباين والاختلاف أيضًا. ولا مراء في أن الحلق واللسان وعملهما في النطق خاضعة لقانون طبيعي كالقانون الذي اكتشفه الإنسان وأصدر عنه أكثر آلات الموسيقى على اختلاف تركيبها، وعرف بذلك كيف يبتدع الأصوات ويقلدها ويفسد منها ويصلح.
وكذلك الجماعات أيضًا خاضعة لقانون -أو قوانين كثيرة- تجعل لكل جماعة دستورًا أو دساتير تجري عليه في كل شأن من شؤونها، وتفضى بها إلى غايات أو نتائج لا محيص عنها. وهذه القوانين تنشيء من الأغراض -أو تنشأ هي من الأغراض- ما تصبح به الجماعة فئة ذات حضارة مدنية على اختلاف الدرجات.
فمن أجل ذلك كان لابد للغة من قوانين تسير بها وتتغير على قواعدها طبقا لما يلحق أداة التعبير نفسها من التغير والتباين، وبحسب ما تخضع له الجماعة من
(*) مجلة الكِتاب، المجلد الثاني، سنة ١٩٤٦، ص: ٣١٠ - ٣١٣