للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[تاريخ بلا إيمان]

أنا أعلمُ أنى استفتحتُ موضوعًا، لو شئت أن أستهلك فيه تلك الذُّبالة الخفاقة المترددة من بقيّة عمرى، لما استطعتُ أن أوفيه حَقه من البيان. فإن مادة التاريخ كلها تستقبلنى بقضها وقَضيضها، وتتذاءَبُ بين يديَّ أصنافُ الطبائع البشرية التي فطر الله الناسَ عليها -على ما علمَ هو سبحانه من اختلاف نفوسهم وساعاتهم وأيامهم وأجيالهم وعصورهم. وطبيعةُ رجُل واحدٍ حيّ، تعرفه وتعاشرهُ من ولد أبينا آدم صلى الله عليه، مشكلةٌ تعجز الفارس (١) البصيرَ أن يهتدى إلى ما يختبئ فيها من التناقض والتخَفي والتسرُّب. فما ظنُّك بإنسان لم يستبقِ لك الله منْه ما تعرفه به إلا نبذًا يسيرًا من أخبار تُروى، لا تستغرقُ سوى صفحة أو صفحات، ولقد قضى في الدنيا عُمُرًا من قبلُ، لو هو قُيّد وكتب بجميع ما أحدث فيه، لما وسعته المجلدات الضخمة؟ فانظر إذنْ أين ينتهي بك توهمك، وأنت تتحرَّى أن تتعرَّفَ خبءَ مؤلّفه من مثل هذا الإنسان، عاشت أعمارًا طوالا وقصارًا في طوايا الغيب الماضي، استنفدتها بأعمالها وخواطرها ساعة بعد ساعة، ويومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام -في تاريخ متقادِمٍ متطاول يمتدُّ في غيب الماضي سبعين سنة، وثلاثمائة سنة، وألف سنة، أو تزيد! ! هذا تصوُّرٌ مثبطٌ للفكر، ولكنه ضرورة لا غِنى عنها للمؤرخ، وهو أشد ضرورة لمؤرخ يكتب تاريخ أهل الإسلام، ثم هو أفدح ضرورة لأنه تاريخ -ما علمتُ- يختلف اختلافًا مبينًا صارخًا عن كل تاريخ عهده البشر في سائر تواريخهم، ثم هو الضرورة الراسخة لمن ورَّط نفسه في تاريخ أهل القرون الأولى من الإسلام. بيد أنّ المؤرخ المسلم وحده هو القادر على أن يكتب تاريخ أهل الإسلام، وغيرهم إن شاءَ، على وجه يمكن أن يوصف بالنبل والفهمِ والصدق والأمانة والثقة- إذا هو حرَصَ على أن يتأدّب بما أدَّبه به ربه من أخلاق تَلزمه في معاملته، كما تصحبهُ في


(*) المسلمون، العدد الثاني، ١٣٧١ هـ / ١٩٥١، ص: ١٣٨ - ١٤٥
(١) الفارس هنا: صاحب الفراسة.