للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

٣ - الفتنة الكبرى

كان من البيّن -كما رأيت قبلُ- أن يهود الحجاز قد شبوا في الجاهلية نار العداوة بين بني أم واحدة وأب واحد، يسكنون بلدة واحدة، وهم الأوس والخزرج، فتمادت الحرب بين الأخوين أحقابًا من زمن الجاهلية حتى كادوا يتفانون في يوم "بُعاث" الذي كان قبل هجرة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بست سنين. وكان الذي كان بين هذين الأخوين أمرًا جللًا شديدًا على بعض عقلاء الأوس والخزرج، إذ صاروا إلى ما وصفهم به أصحاب بيعة العقبة الأولى من الأنصار إذ قالوا لنبي الله: "إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بيننا"، ويهود يومئذ "قد عَزُّوهم ببلادهم" أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، كما قال رجال من الصحابة وكما قال أكثر رواة التاريخ القديم. وكان بعض اليهود يحالف الأوس، وبعضهم يحالف الخزرج، ولكنهم كانوا يدًا واحدة إذا جد الجد، فيخرجون من معارك هذين الأخوين لا يصيبهم شرٌّ كثير أو قليل، بل كانوا يقولون لهم: "إن نبيًّا مبعوث الآن قد أظل بزمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإِرَم" وشغلت الحرب والعداوة هذنى الحيين، فانصرفوا عن الزراعة واستولت عليها يهود، وشغلتهم عن التجارة فاستبدت بها يهود، وشغلتهم عن حماية أرضهم فعاثت فيها يهود. وأخذت يهود تبنى في المدينة وما جاورها آطامًا وحصونًا كثيرة متفرقة، وتجمع في هذه الحصون ما استطاعت من السلاح والحلقة (١) وعُدة الحرب، وهي شيء كثير جدًّا كما ظهر ذلك بعد فتح هذه الحصون والآطام على يد رسول الله وأصحابه من المهاجرين والأنصار. ولم يكن ذلك من فعلهم في المدينة وما جاورها وحسب، بل كان مثله أيضًا في جنوب الجزيرة، في اليمن وتلك البقعة من نجران وصنعاء إلى ناحية البحرين، كانوا


(*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد ٧٦٥)، مارس ١٩٤٨، ص: ٣٥٤ - ٢٥٧
(١) الحَلْقَة من الناس: الجماعة، يعني تعد الرجال للحرب، أو أراد بالحلقة مطلق السلاح.