بالمنطق العقلي الذي لا يزلُّ على مدارج المجاز فتنقطع صلاتُه بحقائق المعاني التي وضعت لها هذه الألفاظ اللغوية. . .، ثم المنطقُ العقلي الذي يختزن هذه اللغة، ويستطيع أن يتحوَّل حاسة دقيقة مدبرة تقوم على الإحساس وتحوطه من الضلال. . .، ثم المعاني التي يتمثلها إحساس الشاعر حين يَهيجه ما يؤثر فيه تأثيرًا قويًا عنيفًا -هذه الثلاثة هي، مادة الشعر الجيد، فإذا سقط أحدها أو انحط أو ضعف، سقط الشِّعرُ بسقوطه أو انحط أو ضعف.
وأنا أقول: إن أكثر شعر العصر العربي الحاضر قد انحط وضعف وسقط، لأن أكثر الشعراء قد بلغ منهم العيب مبلغًا أفسد كل ما يعتدُّ به من آثار "الشاعرية" التي بقيت فيهم، ولم يخلص لأحد منهم جميع هذه الثلاثة التي ذكرنا. ولكن بقي لشاعرين أو ثلاثة ما يمكن أن يُلحقهم بأهل المرتبة الأولى من الشعراء العبقريين، وهذه المرتبةُ الأولى إنما نتخيلُها ولا نكاد نعرف أحدًا استوى عليها، فملك فيها بيان العربية وشعرها يصرفهما كيف شاء، فيكون في تاريخ اللسان العربي عبقرية جديدة كامرئ القيس، ومسلم بن الوليد، والمتنبي، وأبي نواس، والبحتري، وأبي تمام، وغيرهم ممن يعد لسانًا وحده. . .
[شاعر! !]
وأحد هؤلاء الشعراء الثلاثة الذين سيدفعون أنفسهم في مجاز العربية حتى يبلغوا المرتبة الأولى -فيما نتوهم- هو "محمود حسن إسماعيل": فهو إنسان مرهف الحسّ دقيقه، متوهِّجُ النفس، سريع التلقى للمعاني التي يصورها له إحساسه، وإن إحساسه لينشئ له من هذه الصور والمعاني أكثر مما يستطيع أن يطيق صبره، وهو -إذ فقد الصبر على مطاولة هذه المعاني من إحساسه- تراه يثبُ وثبًا من أَول المعنى إلى آخره لا يترفَّق، كأن في إحساسه روح "قنبلة". فلذلك تجد المنطق العقلي في شعره متفجرًا أبدًا لا يبالي "أوقع على اللفظ من اللغة، أم وقع اللفظ عليه"، ولكنه على كل حال منطق يقظٌ حساس بعيد الوثبة، يحاول دائمًا أن يضبط هذا الإحساس الذي لا يهدأ ولا يستقر. وسينتهي -بعد قليل من المصابرة والمرابطة لإحساس مشاعره- إلى القدرة على متابعة إحساسه وكبحه وتزجيته على هدْى واحد مؤتلف غير مختلف، وذلك حين يجتاز الشاعر