أيها العزيز، كانت نيتى، كما تعلم، أن أجعل ما أكتبه، تعقيبا على مقالاتك الخمس، مقالة واحدة، ولكن القلم جمح بي جماحا أنا غير راض عنه، فاجتزأت بالقدر الذي نشرته، وأجلت الباقى. ومع التأجيل تتغير طبيعة سرد الأفكار. ومضت أيام، وحل ميعاد كتابة المقالة الثانية، فكعادتى، عدت أقرأ ما كتبته في المقالة الأولى، ولم أكد أنتهي إلى آخر ما ختمت به المقالة، وهو بيت شيخ المعرة:
وأردتمونى أن أكون مُدَلِّسا؟ ... هيهاتَ! غَيْرى آثر التدليسا!
حتى رأيتنى بما كتبت، قد وقعت في ردغة التدليس، (والردغة: الوحل الكثيف المتماسك الذي يعسر الخلاص منه). وذلك أنى من شدة إلحاحي على نَفْى كل (خصومة) بيني وبين الدكتور طه تظن أنت أنها أدت لي إلى الجور عليه في الكتابه عنه، كدت بفعلى هذا أن أوهم القارئ أن الخلاف بيني وبينه كان، ولم يزل، مقصورا على "مسألة الشعر الجاهلي"، وما ارتكبه هو في سبيلها، وما اقترفته الجامعة وأساتذتها يومئذ من التستر على فعلته التي فعل. وهذه هي ردغة التدليس التي وقعت فيها. ولكى أُزيل هذا التدليس الذي أوحت به مقالتي الأولى، رأيته واجبا عليّ أن أبين الأمر بيانا واضحا.
لم تكن بيني وبين الدكتور طه نفسه (خصومة) ما منذ عرفته إلى أن أفضى إلى ربه. نعم، ولكن نَفْى هذه (الخصومة) لا يعني البتة إني راض كل الرضى أو بعضه عن سائر أعماله وآرائه، فالعكس هو الصحيح، الدكتور طه أديب كبير، له كتب كثيرة مختلفة الأنواع، وله آراء كثيرة مبثوثة في ثنايا كتبه، وله أساليب في البحث والنظر والاستنباط، وله قدرة متميزة على تصوير آرائه وأبحاثه وسائر
(*) مجلة الثقافة، السنة السادسة - العدد ٦١، أكنوبر سنة ١٩٧٨، ص ٤ - ١٨.