ورثة هذا اللسان العربي هم الآن أقل خَلَفٍ شوقًا إلى نشر التاريخ المطويّ لمن سلف من آبائهم، وأبعدهم عن معاناة المشقة في استقصاء أخبار من غبر من علمائهم وأئمتهم وهداتهم ومن فتح ومن قاد ومن حكم ومن استوزر من أسلافهم، فلذلك نكرِوا التاريخ العربي إذ لم يعرفوه، وركَّتْ أساليبهم إذ كان الأدب العربي على جانبى التاريخ العربي وفي طريقهِ ومن بين يديه ومن خلفه. ولا عَجب فقد كانت البلاغة لعهدهم هي ميزان الرجال، ومقياس العقل، وقسطاس الحكمة. وما عق هذا الخلف أبوّة من غبر من أسلافهِ إلّا لأسباب أخذت عليه طريقهُ، ولو أن جلها ليس مما يبرر هذا العقوق أو يُعذر منه.
ولقد انْتُدِب لمداواة هذا العقوق رجالٌ من الأدباء والشعراء فبذلوا ولم يضنوا، وأخرجوا في رجال الأدب والتاريخ كاتبًا تعرّف الناسَ بهم وبأدبهم وأخلاقهم وفضائلهم وما سوَّغوا من الحكمة. وما رزقوا من الفضل. فمن ذلك ما كتب الأديب الجليل "خليل مردم بك" عن "الجاحظ" و"ابن المقفع" و"ابن العميد" و"الصاحب بن عباد". والثلاثة الأولى من كتبه قد نشرت من أشهر وتداولها الناس. ونشر حديثًا كتابه عن "الصاحب بن عباد" فاستوفى ترجمته ما استطاع، وجمع شتات ما وصل إلينا من أخباره، ثم أبدى في ذلك من صواب الرأي والدقة والتوثق قبل الحكم ما يشهد بأمانته وعدله. وفي الكتاب من رسائل "الصاحب" ومن شعره ما لم ينشر مستقلًّا بعد.
وأسلوب كتابه هذا، هو الأسلوب الجيد في عرض التراجم التي يقصد من كتابتها تعريف الناشئين بمن مضى من أسلافهم، حتى لا يقفوا منهم موقف الجهل إذا ما عرض ذكرهم في حديث أو كتاب. على أنهُ لا يمكن أن يقال إن هذا الكتاب هو أوسع ما يكتب عن الصاحب، فإن أكثر ما كتب هو وما ألَّف، أو ما كتب عنه أو قيل فيه، قد استبد به الضياع. ولا يبعد أن يطلعنا القدر يومًا
(*) المقتطف، المجلد: ٨١، نوفمبر ١٩٣٢، ص: ٤٩٣ - ٤٩٤