تأليف إلياس الأيوبي - مطبعة الرغائب بالقاهرة سنة ١٣٥٢
ظهر هذا الكتاب، وكثر الحديث عنهُ فثارت الهمة لقراءته والنظر فيه وبخاصة لأنّهُ تاريخ أغمض العصور التي مرّت بمصر وذلك لضياع أكثر الكتب المؤلفة في هذا التاريخ الواقع ما بين سنة ٢٠ من الهجرة إلى سنة ٢٥٤ منها. وأخالف ما درجتُ عليه في الكتابة وأقول إني أخذت هذا الكتاب فقرأته أحسبهُ شيئًا فإذا هو ليس بشيء، وأقول هذه الكلمة وأنا أحمل أوزارها وأثقالها وما يشاءُ القارئ من أوزار وأثقال. فأنا -يا سيدي القارئ- لم أقرأ هذا الكتاب إلَّا وقد عقدت النية على أنهُ تاريخ مصر من أيام الفتح العربي إلى أول عهد الدولة الطولونية لا على أنه أوهام في تاريخ مصر من الفتح العربي إلى عهد الدولة الطولونية. وقبل أن نبدأ ينبغي لنا أن نعرف ما هو التاريخ وكيف يكتب.
يعتمد مؤرخ كل أمة من الأمم على دعامتين، فإِحدى الدعامتين هي دعامة الرواية والأخرى دعامة العقل. والرواية هي مادة التاريخ الذي لا يمكن أن يسمى تاريخًا إلا باجتماعها وحشدها. والعقل هو المصنع الذي تنقى فيهِ هذه المادة وتجلى ويؤلَّف بين المتقارب ويفرَّق بين المتباين من أجزائها وعناصرها. فإذا اعتمد المؤرخ على الرواية دون العقل كان ما يكتبهُ تاريخًا إلا أنّهُ تاريخ أعرج، فإذا اعتمد على العقل دون الرواية لم يكن ما يكتبهُ تاريخًا، فإن اعتمد على العقل وقليل من الرواية كان ما يكتبهُ نوعًا من الكلام لا يسمى تاريخًا بل يسمى أوهامًا في التاريخ. ولا يخرج التاريخ الصحيح إلَّا من مصانع العقل القوي المشرق الذي اجتمعت له المادة التاريخية المحشودة المصححة. ولا أظن أن مؤرخًا مهما بلغ من قوة العقل وإشراقه يستطيع أن يولِّدَ لك من بعض الروايات المنسوبة إلى التاريخ تاريخ أمة قد ملأت الأرض علمًا وحضارة وأدبًا. هذا. . . فإذا اعتمد المؤرخ على الهوى دون العقل مع قلة الرواية وضعفها وتهالكها فكيف يكون تاريخه؟ إذا