في أواخر القرن التاسع عشر الميلادى وأوائل القرن العشرين، كانت العربية قد بلغت من الانحلال على ألسنة أهلها مبلغًا ليس بعده إلا موت اللغة واندثارها بتةً واحدةً، لولا كتاب واحد كان كالديدبان على مصير هذه اللغة ومصير أهلها -هو القرآن، إذ كانت في كل بلد عربي لهجة عامية تختلف عن عامية أخيه، بيد أن القرآن ظل هو اللغة المشتركة التي يتفاهم بها هذا الجيل المختلط من العرب، وظلت لغته هي الرباط الوثيق الذي يمنع هذه الأمة العربية من أن تنتشر وتتفرق وتنقطع بينها أسباب التفاهم.
وفي هذا العصر نفسه كان الشعر العربي، في هذه البلاد المختلفة والأوطان المتباعدة، خليطًا عجيبًا من الركاكة والعبث بالألفاظ وبالمعاني وبالعقول، فكان مصيره أيضًا إلى الاندثار، لولا رجل فرد جاء كالقدر الغالب لينقذ الشعر العربي من أن يصير رِمَّة بالية في تاريخ الأدب، هو محمود سامى البارودى الذي نشأ على سليقة العرب الأوائل، فطرح الركاكة واللهو بالألفاظ، وانتحى الجزالة وقوة الأسر في العبارة في شعره، أو في التعبير عن حقيقة ما يدور في نفسه "هو" من المعاني التي يحس بها إحساس الشاعر، وإن كان يسلك أحيانًا طريق تقليد القدماء فيما لم يحس به ولم يعرفه، كبكاء الديار والأطلال ما إليه من خصائص شعراء الجاهلية وصدر الإسلام. فكانت نشأة البارودى في ذلك العصر إحياء للعربية وللشعر العربي لم نقدره إلى اليوم حق قدره. فلولا كتاب الله، ثم لولا ما شاء الله من هداية البارودى الشاعر إلى حقيقة نفسه وإلى حقيقة الشعر، لما صارت العربية إلى الذي صارت إليه اليوم، حتى لو بعث الجاحظ، وبيننا وبينه أكثر من عشرة قرون ومئتى سنة، لما أعجزه أن يفهم عن العقاد والمازنى وطه حسين من كتاب هذا اليوم، وعن محمود حسن إسماعيل وعلى طه من شعرائنا المعاصرين.
(*) مجلة الكِتاب، المجلد ٤، سنة ١٩٤٧، ص: ١٥٦٦ - ١٥٨٧