للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

هزْل. . .!

يخيل إليَّ أن بين قلمي والليل صبابةً أو هوى قديمًا. فطالما رأيتنى أعقد الرأي والعزمَ نهارًا على شيء أجعل الكتابة له قيدًا إذا جَنَّ الليلُ، فما أكاد أحملُ القلم وأبدأ حتى أرى القلم ينقض عليَّ رأيي وعزمي ويمضي إلى حيث شاء كما شاء، فما يُبقى من آية النهار المبصرة شيئًا إلا طمسَهُ أو أزاله أو نكَّر من معارفه، وما أظنّ إلا أن كل كاتب قد ابتُلِىَ من قلمه بمثل الذي ابتُليتُ به أو بشيء يقاربه. ومن أعسر شيء ألقاه من القلم أنى ربما بدأتُ الكتابة، فإذا هو مِطواعٌ حثيث لا يتوقف، وإذا كلمةٌ مرسلة إليه ليقيدها، فإذا هو كالفرس الحرون قد ركب رأسه وأبى إباءً، فلا أزال أترفقُ به واستحثُّه وأديره بين أناملي لِيَلِينَ ما استعصى من طباعه، ولكنه يأبى إلا لجاجة وعنادًا، ثم ينزع إلى وجه غير الذي أردتُ، وإذا أنا مضطر أن أعود من حيث بدأ هو لا من حيث أردتُ أنا أن أبدأ، وعندئذ يمضي على هواه وعلى ما خيّلتْ. فقد عرفت ذلك من عاداته قديمًا، فما يكاد يفعل ذلك حتى أثوبَ إلى ورقة أخرى فأبدأ الكتابة من حيث أراد، وأمري لله. أفتراني أخطئ إذا أنا زعمت أن لقلم الكاتب شخصية مستقلة بل منفصلة تكاد أحيانًا تغلب حامله على رأيه وعلى تقديره وعلى عزائمه؟ أم الإنسان المفكر صاحب العقل شيء آخر غير إنسان الكاتب حامل القلم؟ فهو حين يفكر يُعطى أفكاره الحرية والسَّعة والحماسة ما يجعلها أقدر على التصرف في وجوه الرأي وشعابه ونواحيه، فإذا حمل القلم ليملى عليه بعض أفكاره، واستقل قلمه بالفكرة بعد الفكرة يزنها ويقدرها على قدر عقله لا على عقل حامله، فربما عرض له أن ينبذ منها أو يتنقَّصها أو يتجافي عن طريقها فيسدَّ عليها المسالك ويضرب عليها بالأسداد، ثم يشرع إلى وجه غير الذي يُرَاد له؟ أم الإنسان إذا فكر ثم أراد أن يكتب وحمل القلم صار هو نفسه شخصا آخر غير الإنسان المفكر بغير قلم


(*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد ٦٩١)، سبتمبر ١٩٤٦، ص: ١٠٧٥ - ١٠٧٧