لستُ امرءًا قانطًا ولا متشائمًا ولا يائسًا من خير هذه الأمة العربية، بل لعلني أشد إيمانًا بحقيقة جوهرها وطيب عنصرها وكرم غرائزها، بل لعلني أشد إيغالا في الإيمان بأنها صائرة إلى السؤدد الأعظم والشرف السري والغلبة الظاهرة إن شاء الله، وأنها هي الأمة التي أرصدها بارئ النسم لرد العقل على هذه الإنسانية المجنونة في هذه الحضارة الهوجاء. فالعرب مذ كانوا هم الجوهرة التي أطبقت عليها صحراء الجزيرة، فما زالت تكتمهم في ضميرها وتحنو عليهم وتمنعهم من كل فساد داخل حتى صفا ماؤهم ورق شبابهم وأضاؤوا من جميع نواحيهم. فلما جاءهم محمد بن عبد الله بشيرًا ونذيرًا وهاديًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صار كل رجل من صحابته نجمًا يهتدى به الضال ويأتم به المسدَّد. ويومئذ تمت المعجزة الكبرى في تاريخ العالم، فانطلقت هذه الفئة الصالحة من عباد الله كأنها السيل المتدفع، وكأنها الرياح العاصفة، وكأنها الأشعة المتلألئة، وكأنها قدر الله، فدكّت حصون الروم، وثلّت عروش الفرس، ودوّخت جبابرة الأمم، حتى ورثوا أرض الله وأقاموا فيها الحق والعدل بالميزان والقِسط، وجاءت سلالتهم فجددت حضارة الدنيا، وإذا الذين كانوا بالأمس بداة جفاة غلاظًا فيما يرى الناس من أهل الحضارات السالفة، هم الناس وهم العلم وهم أصحاب الإمرة في كل فن وعلم وسياسة وتدبير ملك. إنها لمعجزة لم يوفها مؤرخ حقها من المجد والقوة والظهور.
فهذا الجيل من عباد الله مطوي على صلاح كثير وخير عميم وقوة خارقة، لا أظن أن الزمن قد ذهب بها ومحقها، فلذلك أراني وملء قلبي الإيمان بأنه سوف ينتهي إلى الغاية التي كتبت له في تاريخ هذه الإنسانية. وعسى أن يكون
(*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد ٧٤٨)، نوفمبر ١٩٤٧، ص: ١١٩٩ - ١٢٠١