الذي يسرى اليوم في حياتنا الأدبية من السموم الفتاكة شيء "كثير" لا يحاط به، ومع ذلك فالأطباء والصيادلة قليلون وهم مع قلتهم منصرفون كل الانصراف عن تتبع هذه السموم وعن تحليلها، وعن تنبيه الناس إلى خطرها وفتكها، وعن تحذيرهم من هذه الأقراص الجميلة الشكل الذكية الرائحة من خارج، وباطنها تفوح منه أخبث الروائح. وهي اليوم تباع في كل مكان ولا يسأل أحد عن مصدرها، أو عن الجهات التي تخصصت في صناعتها وتصديرها، أو عن التكنولوجيا الحديثة التي عبأتها أحسن تعبئة وهيأتها للاستئثار بإقبال الشباب والفتيات في هذا العالم العربي والإِسلامى الذي نعيش فيه، واتخذت وسائل الإعلام جميعًا للإعلان عنها يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة.
لا أدري من يكون؟ ولكن هكذا يقول، عن رواية "أولاد حارتنا" للأستاذ نجيب محفوظ.
وربما تبادر إلى الظن أن كتابة الحوار على الأقل باللغة العامية، إن لم نقل كتابة الرواية كلها، كانت تكون أقدر على تحقيق هذا الهدف (أي أن يشد اهتمام القارئ البسيط ويأسره ليتمكن بعد ذلك من إثارة تفكيره! هكذا يقول).
ولكن نجيب محفوظ يقصر استخدامه للعامية على الأغنيات والأمثال الشعبية التي يقتبسها، بالإضافة إلى بضع كلمات ومصطلحات تجري على الألسنة في الحياة اليومية، ولو نقلت إلى اللغة الفصحى لبعدت عن هذه الحياة بعدا كثيرا (فالمائدة تظل طرابيزه، والأريكة كنبة، والعربة التي يجرها حصان عربة كارو. . . الخ). وكل ما خلا ذلك مكتوب باللغة الفصحى التي يتردد فيها أحيانا إيقاع قرآنى (مثل التعبير الوارد على صفحة ٣٤٤: يؤدي الإتاوة صاغرا) أو في صيغ عتيقة مثل "فوه" بدلا من "فمه" و"فيه" بدلا من "فمه" و"فاك" بدلا
(*) مجلة الثقافة، السنة السادسة، العدد ٦٢، نوفمبر سنة ١٩٧٨، ص ١٤ - ١٦