تكاثر الحديث فجأة عن إلغاء المعاهدة، ولم يبق لسان ولا قلم لم يجر عليه حديث إلغائها، ولكني وقفت طويلا أتردد أن أغمس قلمى أو لساني في شأنها، حتى يستقر قرارى على ما ينبغي أن أكتب أو أقول. ثم تبين لي أن ثقل الصمت أفدح من وزر الكلام. وتبين لي أنه لابد من بيان وتفسير لما نحن فيه، وإلا فنحن صائرون لا محالة إلى مصير مفزع تسوقنا إليه سياسة الاستعمار. فإذا لم نفهم الآن كل الفهم ماذا يريد بنا عدونا، فلن نجد غدا من شره نجاة، وسنظل دائما في حيث أراد بنا أن نكون، وسنسير أبدا إلى حيث يريد لنا أن نسير.
وقبل كل شيء، ينبغي أن نفرق بين الشعب والحكومة. فالحكومة في البلاد المنكوبة بالاحتلال، جزء من نظام الاستعمار، ولو زعمت أنها مستقلة في تصريف سياستها. ومن خداع النفس أن يتصور إنسان أن الحكومة تمثل إرادة الشعب، أو تفكر مثل تفكيره، وبخاصة إذا ثبت ثبوتا قاطعا أن جميع حكومات الاستعمار، لم تستنكف أن تعاونه مرات، وأن تخضع لما أراد أن يخضعها له، وأن تبقى في مناصب الحكم وهي تعمل بأمره وتحطب في هواه.
وطريقة الحكومات في البلاد المحتلة، هي أن تهادن الغاصب وتفاوضه وتعاهده، أما الشعوب فلا تعترف بالمهادنة والمفاوضة والمعاهدة، إلا أن يدعى مدع أن الحكومة تمثل الشعب، فإذا رضيت هي شيئا، فالشعب راض عنه! وهذا باطل من أساسه، لأنه مناقض لطبيعة الحق الخالد: وهو أن الشعوب لا ترضى أبدا بالاستعباد وإن جاء في صورة معاهدة.
فالحكومة والشعب شيئان مختلفان كل الاختلاف في عهد الاستعمار، ومن أجل ذلك كانت كل معاهدة بين الحكومة وبين حكومة الغاصب المستعمر، معاهدة باطلة من أساسها. والشعب لا يطالب بإلغائها، لأنها ملغاة فعلا في