زمانه من التطبيق القديم. وهذه البقايا متمثلة في أساتذة كل فن وصنعة ممن حوله من المعاصرين. وهؤلاء الأساتذة هم الذين كانوا يزاولون أعمالهم من طريق التوارث بدقة ومهارة أحيانا، وإن كانوا قد وقعوا في الجهالة، بعد أن انقطع الحبل بينهم وبين تراثهم العتيق المكتوب المسجل، وبلا قدرة أيضًا على أن يسجلوا شيئًا من براعاتهم ومهاراتهم التي اهتدوا هم إليها في خلال التطبيق المتوارث. وذلك لجهل أكثرهم بالقراءة والكتابة، فضلا عن اللغة التي يقيد ببها العلم النظرى الذي قيده بها أسلافهم العظام.
[النكبات الثلاث]
وأنا محتاج هنا أن أقف بك وقفة قصيرة المدى، ملتزمًا بالإيجاز، حتى تكون الصورة بعد ذلك واضحة عندك بعض الوضوح.
على أوسع رقعة من الأرض عرفها الإنسان، من حدود الصين إلى الأندلس، ومن حدود الدولة البيزنطة شمالا إلى أواسط قارة أفريقيا وأقصى آسية جنوبا، انتشرت ثقافة واحدة ذات لغة واحدة، تأوى إليها جميع ألسنة أجناسها المختلفة، فأقامت هذه الأمة العربية الإِسلامية أعظم حضارة عرفها البشر، منذ عهد الحضارة العربية البائدة التي نسميها اليوم خطأ، حضارة الفراعنة. ومضت عليها خمسة قرون، وحيث سرت في هذه الرقعة المتراحبة، لم تزل تسمع أصوات الأساتذة المعلمين، وصرير الأقلام على الطروس، في كل قرية أو رستاق أو مدينة، ولم تزل ترى في كل مسجد أو بناء أو بيت مكتبةً تضم العشرات أو المئات أو الآلاف، أو الآلاف المؤلفة من الكتب المسطورة على اختلاف فنونها. فاجتمع لهذه الأمة من الكتب المدونة، ما لو وضع معه كل ما تركته أمم العالم القديم من الكلام المسطور، ما بلغ ركنا، في غرفة، من قصر فيه مئات الغرف.
وأترفت جماهير من هذه الأمة بغناها وسطوتها وعلمها، فعصوا ربهم في بعض أمورهم به، فسلط عليهم من أنفسهم من سلط، ثم أنذرهم بثلاث نكبات عظام لعلهم يبصرون: