ذلك منزلتها، فتكَوَّن من الصحف المختلفة المبادئ آراء متخالفة، لا بل متباعدة، لا بل متعادية، كلا بل هي في الواقع لا تمس جوهر حياة الشعب العامل المستَهلَك في الزراعة والصناعة والجهْل أيضًا. . . وحتى لا نجد صحيفة واحدة قد بَنَتْ دعوتها على أصولٍ بيِّنة موافقة لحاجة هذا الشعب، وعلى هذه الأصول تأخذ وتدع، وتحبذ وتنقد، وتهدم وتبنى، على تعاقب السنين وتغير الظروف والأحوال.
[التبشير]
وأحدُ الأمورِ التي ابتُغِى بها العملُ على إضعافِ الشعب والتفريق بين أهله، وإيجادُ ضروب من الثقافات في بلد واحد يجب وجوبًا قطعيا -كما يقولون- أن تتوحد ثقافته -هو ما اتخذوه من التبشير ومدارسه المختلفة، وما يبطن أصحابها وما يظهرون. وليس التبشير هو الدعوة الصريحة إلى الدين المسيحي، فإن هذا لا يمكن أن يكون في بلد جل أهله من المسلمين، وخروج المسلم من دين الإسلام الى دين غيره يكاد يكون مستحيلًا في العامة من الشعب، ويكاد لا يصح عند المتعلمين وأشباه المتعلمين وهذه حقيقة يعرفها المبشرون قبل أن يعرفها المسلمون، وإذا فليس الغرضُ من التبشير هو المفهوم من لفظه، ولكنه الذي أشار إليه الأستاذ "الزيات" في مقاله، ثم إيجاد ضرب من الثقافة الأدبية والخلقية والعقلية يناقض ضروبًا أخرى من الثقافات المختلفة في مدارس الأجانب والمدارس الوطنية، وبذلك تتعدَّد المناهج الفكرية في حياة الشعب، ويعسر بعد ذلك أن تتحد هذه الثقافات على رأي عام يقوم عليه الشعب ويحرص على تنفيذه، ويأخذ في الإعداد للوصول إليه درجة بعد درجة. وكذلك يبقى الشعب إلى النهاية وهو في بدء لا ينتهي وفي اختلاف لا ينفضُّ، بل يصير ولابد إلى المعاداة والمنابذة والأحقاد التي تؤرثها السياسة الاجتماعية الخفية التي طغت على الشرق من قِبَل حضارة قوية باهرة عظيمة كالحضارة الأوربية.
ولا يزال أهل الشرق مختلفين ما بقيت هذه الثقافات المتعددة من مدارس التبشير إلى المدارس الإلزامية، تمد الرأي العام بأصحاب الآراء المختلفة والعقول