للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ألسنَةُ المفترين

ممَّا يُسْتخرَج به الضَّحِك أن يحدّثك المحدّث أو الكاتب بشئٍ سخيفٍ لا يُعْقَل، وهو يُبْدى لكَ الجدّ كل الجدّ فيما يحدِّثُ أو يكتب. ولكنه عندئذٍ لا يريدُ إلّا إضحاكك. فإذا جاءَ امرؤ يفعَل ذَلك وهو لا يريدُ إلا الجدّ، لأنّه قد بَنَى حديثَه عليه عند نفسه وعند سامعه أو قارئه، فهذا هو المضحك المحزنُ معًا. ولكن من العجيب أن يَكون هذا السَّمْتُ الأخيرُ، هو سمْت أكثر الذين يكتبون اليوم في تاريخ الإسلام. ومن البلْوى أن يأتي هذا في زمنٍ أصبحنا فيه وأصبح الناس، وكلّ حرف مكتوبٍ يُعدُّ عندهم كأنه تنزيلٌ يتلقوْنه بالثقة والتسليم لا يكادُ امرؤ مِنهم ينظر في مأتاهُ من أين أتى، ولا في منتهاهُ إلى أين ينتهي. فإذا اجتمع إلى هذه البلوى بلْوى الهوى المخلوط بالغلوِّ، خرجَ الأمرُ كله من الضَّحِك والحزنِ، إلى الهلاكِ المطبق الذي يغتال العقول والنفوس جميعًا.

يرى الكاتب ذو الهوى خبرًا أو أخبارًا، فلا يدفعه هواهُ إلا إلى أخذ أقربها موافقة لهواه، ويمنعُه الهوى من التمييز، ويحمله التعبُّد للحرف المكتوب أن يغمِض كل بصيرةٍ عن مواضع الدَّخل والغشّ والزَّيْف فيما كُتِب، وتشتدُّ البلوى حين ينتصب لهذا التزوير المدمِّر رجالٌ يلبسون للناس ثيابَ الغيرة على دين ربهم، والحمية لماضي أمتهم، والجهادِ في سبيل إعزاز هذا الدين بأنفسهم وألسنتهم. وتجتمع عليهم وعلى الناس صواعق الهلاك، حين يخدع عامة الناس أمرُهم، فيتلقوْن عنهم معاني وأحكامًا وأخبارًا، وما شئتَ من حصائد الألسنة، على غير هُدًى ولا بيّنةٍ. فيوشك أمر الناسِ أن ينتهي إلى الردَّةِ الماحقة، والكفر المستعلِن. كما مضى مثل الأوَّلين، الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، حين استنصحوا الأحبار والرهبان فأطاعوهم على غير هدى ولا بينة ولا كتاب منير.

وقبل أن أفضى إلى الأمثلة التي تبين عن الفساد والضلال، أحبُّ أن يعلم من


(*) المسلمون، العدد الرابع، ١٣٧١ هـ/ ١٩٥٢، ص: ٣٥١ - ٣٥٩