لم يكن يعلم، أن أسلافنا -رضي الله عنهم- وغفر لهم، منذ ألفوا كتبهم، وضعوا لها قواعد يعرفها أهل هذا العلم، ويجهلها من جنح عن أصولهم وعمى عليه طريقهم. فهم منذ بدأوا يكتبون أسسوا كتبهم على إسناد الأخبار إلى رواتها، وبَرئِوا من عهدة الرواية بهذا الإسناد، ولم يبالوا بعد ذلك أن يكون الخبرُ صحيحًا أو ضعيفًا أو زائدًا أو ناقصًا أو موضوعا مكذوبا؛ لأنهم كانو يعلمون حال الرُّواة ومنازلهم من الصدق والكذب، ومن الورَع والاستخفاف، ومن الأمانة والهوى. وكأنهم أرادوا بهذا أن يجعلوا كتبهم في التاريخ وغير التاريخ سجلا لما قد قيل في زَمانهم وما قبل زمانهم، وما كان يقوله قومٌ، وما كان يقوله آخرون، مهما تعارض القولان أو اختلفا أو تناقضا. وتركوا للعلماء تمييز الحق من الباطل، والصدق من الكذب، على أساسهم المشهور، وهو معرفة الرجال الذين رووا هذه الأخبار أو تكذّبوها. هذا الطبري مثلا (توفي سنة ٣١٠) يقول في فاتحة كتابه في التاريخ: "فما يكن في كتابى هذا من خبر ذكرناهُ عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها صحيحًا، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يُؤت في ذلك من قِبَلنا، وإنما أتى من بعض ناقليه إلينا، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدَّى إلينا". ومن عرف كتابه وكتب القوم، علم يقينًا صدق ما يقول، فإنه يأتي بالخبر لا يصحُّ أبدًا، وبالخبر الصحيح الذي لا شك فيه، ولا يعرض لهما. بتصديق أو تكذيب، ثم تراه في موضع آخر قد احتاج إلى البيان عن حال هذين الخبرين، فعندئذ يميز لك ما هو صحيح عنده وما هو باطلٌ من هذين الخبرين. فهو كما قال، إنما يؤدّى إلى الناس ما أدَّى إليه. وكان الناسُ على عهدهم أهل دين وتقوى، لا يستحل امرؤ منهم -إلا من ضلَّ- أن يحتج في دين الله، ولا في تاريخ الناس والحكم عليهم، بخبر لا يدري أصدق قائله فيما روى أم كذب. ثم جاء من بعدهم قوم خلطوا عامة الأخبار بلا إسناد إلى رواتها، فاجتمع الغث والسمين والصحيح والسقيم، والصادق والمكذوب. ولكن لم يزل دين الناس يعصمهم من شر هذا الخلط المضل، فأمسكوا ألسنتهم عن الخوض في المطاعن والمثالب بلا بينة ولا حجة. فلما جاء