للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من مذكرات عمر بن أبي ربيعة صديق إبليس

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

"وذهبت صهباء وبقيت أترقَّبُها ثلاثة أيام ولياليها وهي لا تجئ، حتى إذا كانت ليلة خرجتَ إلى الطائف آخر خَرْجة، جاءتني صهباء في جِنْح العَتمَة ودخلت هي وظمياء. قالت: لقد أطاع مولاي مرضاتك، فإن أذنتِ جئتُ به الساعة. قلت لها: لبِّثِي حتى يأوىَ جوان. فلما كان بعد هدأة الليل وفقدنا الصوت، ذهبت صهباء ساعة ثم جاءت. وَدَخَل عَليَّ رَجُل أسمر طُوالٌ نحيل البدن مَعْروق الوَجْه أبيض اللحية أشعث أغبر، كأن عينيه جمرتان تَقِدان في وقْبَين (١) غائرين كأنهما كهفان في حِضن جبل ونظر في عيني فوالله لتمنيتُ أن الأرض ساخَتْ بي ولم أنظر في عينيه، فما هو إلّا أن سلَّم حتى سمعت نغمةَ صوتٍ شجى كحنين الوالهة، فوالله لتمنيت أن يتكلم ما بقيت. ولم أدر ما أقول ودَهِشْت وهلك صوتي، فنظرت فإذا هو يبتسم إليَّ ثم يقول: "يا أم جوان! لقد سعيت إلى بيتك وما سعيت من قبل إلى بيت إلا إلى هذه البَنِيَّة "يعنى الكعبة". وقد جاءتني فتاتي صهباء تحدثني عما كان منها إليك، وقبيحٌ بامرئ أفزع قلبًا ساكنًا أن يدعه أو يطمئن، ولو كنت أعلم أنها مفتوقة اللسان، ما حدَّثتها بشئ أبدًا". قالت كلثم: فكأن الله جعل لي قوة سيلٍ جارف فقلت له: كذبت يا رجل وكذبت بنت الأصفر، ووالله لئن لم تأتني ببرهان ما تقول، لتركت شيبتك هذه أباديدَ (٢) في أكف صبيان مكة. ووالله لو صدقت لأسترنَّك


(*) الرسالة، السنة الثانية عشرة (العدد ٦٠٢)، ١٩٤٤، ص: ٦٠ - ٦٢
(١) الوَقب: النُّقْرة في الصخر يستنقع فيها الماء.
(٢) أباديد: متفرِّقة، قِطَعًا قطَعا.