للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

إلى أين. . .؟

- ٢ -

قال صاحبي بعد قليل من سكتة صفير الإنذار بالغارة الجوية: الآن وقد صم صدى هذا النذير البغيض، ومات صوت البومة الدميمة التي قامت تنعق على الموضع الخراب من عقل هذا العالم، فأسرعت الأيدي وتناهضت الأقدام، وخفت الأحياء ليطمروا أشلاء النهار التي كانت مبعثرة في طرقهم وبيوتهم على معركة الليل البهيم، إنهم يدفنون هذه الأشلاء الوهاجة خشية أن تراها عيون العافية (١) من سباع الجو المنقضة بأنياب كرجوم الشياطين. آه يا صديقي! ما أقبح هذا وما أفجره. ولكن دعني من هذا، فالآن أعود إليك.

لقد مثلت لك بعض صورتها هي وبعض صورته عند أول اللقاء. لم أكشف لك بعد عن حقيقة النفسين وهما تعملان بأسباب من القدر، إن هذه الأسباب التي لا يُدرى متى أولها، قد أخذت تلتوى عليهما فيما يستقبلان من أيامهما، وثمت بدأ الإشكال، وتراكبت العقد الجديدة على تلك العقدة القديمة التي التبست عليهما في الطفولة، فلست أدري، ولا هما أيضًا يدريان، إلى أين المصير!

لمحها ولمحته في يوم اللقاء الأول، فوقفا طويلًا ينظران. وشخص البصر وكفت العين لا تطرف، وكأن العين قد أرسلت إلى العين رسلًا من أشعتها لتبحث في أعماقها عن معانيها الحائرة التي لم تستقر بعد على قرار مؤمن، تتبين فيه كلتاهما صورة كلماتها القلبية التي تنبض في موج الدم.


(*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد ٣٦٣)، ١٩٤٠، ص: ١٠٠٧ - ١٠٠٩
(١) العافية: التي تعفو، أي تطلب ما تأكل، يوصف بذلك السباع وجوارح الطير، وفي شعر النابغة "ترى عافيات الطير"، والذي قصده أستاذنا هنا: الطائرات.