أما هو، فقد أخذه ما يأخذ الغريق المشفي على هاوية من الهلاك الرطب الندى، ثم يفتح عينيه، فإذا هو ملقى على الشاطئ قد انتشلته من فزع الردى نجاة برحمة من روح الله. ولكنه لا يدري من الذي رده إلى الحياة بعد ملابسة الموت؟ ولا كيف كان؟ ولا أين هو؟ ولا أي مكان هذا؟ . . .
وأما هي، فقد أنكرته بادئ اللحظ، ثم انكشف لعينيها الحجاب الكثيف الذي أرخاه الدهر الماضي بين أيامها وأيامه. . . لقد عرفته وأثبتته معرفة. فأقبلت عليه تندفع بقوة الرد المتفلت من شد عشرين عامًا كانت تجاذبها دونه: أنتَ، أنت! ! أين كنت؟ !
آه، لقد نسىَ المسكين عندئذ أين كان! إنه هنا. . .!
أليس هذا كافيًا؟ أليس هو كل شيء؟ . . . أما الماضي، أما الحياة التي عملت في بنيانه أعوامًا طوالًا كلها جهد وإرهاق. . .، كل ذلك ذهب وباد وامَّحى، وكأن اليد التي تمحو ما تشاء وتثبت في تاريخ الإنسان، قد أمرَّت صفحتها على رقعة أيامه الماضية فغسلتها وطهرتها من سوادها، وردت إليه وإليها صحيفة أيامه بيضاء نقية قد تهيأت أن ينمنم فيها القدر تاريخه الجديد. . . أجل! كان هذا هو الإنذار الأول من القدر لهذا المسكين أنه سينسى معها كل تجاريبه في الحياة، وأنها هي التي ستكتب له هذا التاريخ الجديد من القدر خيره وشره.
ومضت الأيام الأولى بعد هذا اللقاء البغت على ذكرى حاضرة تصارع وحوش الماضي التي وطئت بأقدامها عهود الصغر وملاعب الطفولة فطمست معالمها ومحتْ بعض آياتها. جعلت هي تتكلم، وكأنها ذاكرة التاريخ الواعية التي لا تكاد تفلت شيئًا إلا أحصت دَقيقهُ وجليلهُ. حدّثته وذكَّرته وأعادتْ عليه زُخْرفَ الصِّبا ووشيه من نسج حديثها، أما هو فبقى صامتًا ينصت لها خاشعًا ضارعًا يسمع صدى الماضي الذي يتكلم في سراديب النفس العميقة الممتدة الذاهبة بأساليبها الغامضة في أقصى غيب الحياة.
كيف تدب الحياة في أشياء الطبيعة التي تخيل للناس أوهامهم أنها مواتٌ؟ كيف تستيقظ الأرواح النائمة في غار مظلم قد أطبقت على منافذه صخورٌ صم من