جاء زمن الشيخ حسن الجبرتى "١١١٠ - ١١٨٨ هـ / ١٦٩٨ - ١٧٧٤ م"، بعد تدهور متتابع، وكاد اللسان العربي العظيم يفقد سلطانه على حضارته. أصبحت معاهد العلم ومدارس الثقافة محصورة في بضعة كتب هي وحدها الزاد الثقافي للأمة، ألفها الناس وتداولوها. ولكنها لم تكن سوى خلاصة منتقاة من زاد ثقافي متقادم متراحب كان نابضا بالحياة، وقد قضى على ما نجا منه تدمير البرابرة الجهلة، أن يظل حبيسًا أكثره بين الجدران وعلى الرفوف في خزائن الكتب، ومع ذلك فهذه الخلاصة تحملها أيدى نيام من الشقاء والنصب قد أنهكتهم النكبات، لا يدل على أنهم ينبضون بالحياة إلا ومضات تلوح وتخفى في تقارير وحواش يسجلونها على كتب هذه الخلاصة. ومضات مضيئة، تسجل فترات قصارا من اليقظة والذكاء والقدرة والتنبه. ومع ذلك أيضا، كان هذا النبض محصورا في طائفة محدودة من فحول علماء ذلك الزمان، ولكنه معزول أيضا عن أمة ضخمة جدا غارقة في الجهالة والفقر والضياع، يجهل جمهورها الأكبر القراءة والكتابة، إلا محفوظا يسيرا يتردد خافتا، بقية من ميراث عظيم يوشك أن يبيد.
فإذا كان الشيخ الجبرتى، وهو أحد الورثة العظام لحضارة أمته العريقة العظيمة. . قد هب فجأة وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، وانتبه عقله المتوقد بعد غفوة طويلة، فانبرى لهدفه بكل ما في قلبه من همة ودأب وذكاء. وآثر أن يقضى عشر سنوات "من سنة ١١٤٤ إلى سنة ١١٥٤ هـ". . متلددا متحيرا يحاول أن يفك رموز جزء يسير من ميراثه الضخم العظيم. . "حتى انفتح له الباب وانكشف عنه الحجاب" كما يقول ابنه المؤرخ العظيم في عبارة غير كاشفة إلا عن دهشة وحيرة. إذا كان هذا كما وصفت، فلا تعجب، فإنه جاء بعد قرون أهلكت آلافا مؤلفة من العلماء المسجلين والمفسرين، وآلافا تفرقها من الأساتذة الخبراء بأسرار فنونهم والحاذقين، وأيضا بعد أن فقد اللسان العربي سلطانه على حضارته أو كاد.