١٤٥٣ م واكتسحت هذه القوة قلب أوربة، واتسعت رقعة العالم العربي الإسلامي اتساعا لا مثيل له، ولكن. .
ولكن توالى النكبات الكبار والصغار على مدى أربعة قرون، كان قد قضى على جمهرة العلماء الكبار والأساتذة العظام في كل فن وصناعة، وأوشكت الحضارة أن تبقى بلا قادة من مثقفيها إلا ما قَلَّ. ومعنى ذلك أن حبال الصلة بين العقول التي كانت تسجل الثقافة وتنميها وتفسرها. . وبين العقول والأيدى التي كانت تقيم صروح الحضارة، قد بدأت تتهتك وتبلى، فلا الثقافة تمدّ الحضارة بما ينميها من البحث والتنقيب والتمحيص، ولا الحضارة تحرك الثقافة وتغذيها بما يزيد أبحائها وتنقيبها وتمحيصها حدة ونقاء وإشراقا، وكاد يذهب عصر الإبداع.
وبدأ عصر العزلة، عزلة البقية الباقية من العلماء وتلامذتهم، فاقتصروا على محاولة المحافظة على التراث المسجل الذي انتهى إليهم، وعزلة البقية الباقية من الأساتذة الكبار الذين يعملون في بناء الحضارة، فاقتصروا على أن يورثوا تلامذتهم أسرار صناعاتهم وفنونهم بلا كتاب مكتوب. وكاد كلاهما يكون بمعزل عن الآخر، بمعزل عن الاستفادة الصحيحة من التراث الكبير المسجل، وعن إمداد التراث المسجل بشيء جديد يحرك المحافطين على التراث المكتوب إلى البحث والتنقيب والتسجيل.
وبتفانى الأجيال جيلا بعد جيل في عصر العزلة، استبهم على المثقفين أنفسهم بعض ما يحافظون عليه من التراث المكتوب، وصار أشبه بالرموز التي تحتاج إلى مفسر، وكذلك تساقط أيضا في توارث الصناعات والفنون جزء مهم من أسرار هذه الفنون والصناعات، وصارت هي أيضا تحتاج إلى مفسر. وأوشك اللسان العربي أن يصبح وسيطا غير صالح لإيجاد التفاهم بين الطرفين. ولولا دوى القرآن في الأذان، ولولا كلمة التوحيد التي نزلت في جذر قلوب الأمة رجالا ونساء، لَتَفارَطَ عقد هذه الأمة العظيمة تحت النكبات كما تتفارط حبات عِقد وَهَى سِلْكُه وهلك. وهذا حسبى في هذه الوقفة. وإن كنت أجدني مقصرا.