اقرأ أحاديث هؤلاء الذين تسميهم الصحافة "زعماء" تارة و"ساسة" تارة أخرى، فلا أدري من أي شئونهم أعجب؟ أمن حسن فهمهم لما يدور في عالم نعيش نحن فيه أداة مسخرة للاستعمار؟ أم من دقة بصرهم بما يرضى الدول التي استعمرت بلادنا من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب؟ أم من براعة ألسنتهم في عرض قضايا الأمم المنكوبة بالاستعمار، عرضا لطيفا هينا رقيقا، يعين الشعوب المسكينة على أن تسكن إلى الأمر الواقع، وإلى الاطمئنان إليه والرضا به، أم من رشاقة اهتدائهم إلى حلول يزعمون أنها ترضى طرفي النزاع؟ وطرفي النزاع -كما هو معلوم بالضرورة- هما المستعمر الذي أهدر حرية الشعوب، وكرامة البشرية، والمستعبد الذي يريد أن يسترد حريته وكرامته.
كلا، بل أخطأت، فأنا لا أعجب في الحقيقة، بل أتقزز وأشمئز، فإن الفرق بين التعجب وبين التقزز والاشمئزاز، هو من الدقة بحيث لا يعدو أن يكون فرقا في صورة التعبير عما تعانيه النفس تفاجئها المعاني المثيرة. ولعلها اختلطت عليّ، كما اختلط علينا كل شيء في هذه السنين السود.
والذي يحمل النفس على التقزز والاشمئزاز، هو أن هؤلاء الزعماء والساسة، مفروض أنهم من أنفسنا، أسماؤهم كأسمائنا، وأنسابهم في الأمة كأنسابنا، ونشأتهم فيها كنشأتنا فكان ينبغي أن يكون إحساسهم بالذل والعار والمهانة كإحساسنا، ولكن يخيل إليك إذا تكلموا، أنهم من عالم غير عالمنا أو من أرض غير أرضنا، فلو طمس اسم أحدهم من حديث يتحدث به إلى الصحافة وثبت مكانه اسم أي انجليزى أو أمريكى أو روسى أو ما شئت، لما أحسست كبير فرق، يميز بينهم وبين أحد من هؤلاء، يكون الرجل منهم كأحسن ما يكون عقلاء الرجال، ولكن فقده للإحساس بالذل والعار والهوان الذي يتمرغ فيه هو وبلاده، يجعل الأمر من الفظاعة، بحيث لا ينفع فيه إحسان ظن ولا حسن تقدير.