من عادتي -إذا ما استبهمَ علي نَفاذُ الرأي- أن أعدل بأفكاري إلى الليل، فهو أحصنُ لها وأجمع. فإذا كان الليلُ، وهدأتِ النائرةُ، وأَوَى الناسُ إلى مضاجِعهم، واستكنت عقاربُ الحياةِ في أجحارِها، تفلتُّ من مكاني إلى غرفتي أُسدِلُ ستائرها وأغلِّقُ أبوابها ونوافذها، وأَصنعُ لنفسي ليلًا مع الليل، وسكونا مع السكون، ثم أقعد متحفزا متجمعًا خاشِعًا أملأ عيني من ظلام أسود، ثم أدعُ أفكاري وعواطفي وأحلامي تتعارف بينها ساعة من زمان، حتى إذا ماجت النفس موجها بين المد والجزر، ثم قرَّت وسكنت، وعاد تيارها المتدفق رهوًا ساجيًا كسعادة الطفولة، دلفت إلى مكتبي أستعين الله على البلاء.
وأمسِ، حين أيقظني من غفوتي داعي "الرسالة" جمعت إليَّ ما عزمت على قراءته من الصحف والمجلات والكتب -التي هي مادة هذا الباب- وطفقت أقرأ وأقرأ، ولا أكتم أني كنت أقرأ في هذا اليوم -على خلاف عادتي في أكثر هذه الأيام- قراءة المتتبع اليقظ الناقد المتلقِّف لأضع يدي على أغزر الأصول مادة وأعظمها خطرًا وأشدها بِنية. . . . وأدسمها شحما، فإنّ حق القراء علينا أن نتخذ لهم صنيعًا ومائدة تكون أشهى وأمرأ وأقرب متناولًا وأردَّ على شهواتهم فائدة. فلما فرغت من إعداد ما أعددت لهم وأويت إلى ليلى المختلق المزيف، جعلت أستعيد في نفسي ما قرأت، وأين وقفت منه، وما تنبهت له مما تعودت أن أستشفُّه من وراء الألفاظ المعبرة، ومن تحت السياق المهدِف إلى غرضه -مما هو بأخلاق الكُتاب وعاداتهم ونوازعهم وخفايا نفوسهم ألصق منه بأغراض الكاتب فيما كتب. فما كدت أقدح الظلام بعيني وأفكر في هذا الأمر وأستدرجه إلى نفسي حتى رأيتني أكاد أنفر من مكاني لما عراني من سوء الرأي وقسوة الظن، فإن طول تغلغلي في معاني الكُتاب والشعراء، أو في معاني أنفسهم، يدلني على أن أكثر من يكتب إنما يدفع بعض الكلام إلى قلمه ليعبر عنه، غيو محتفل بما يقول، فكذلك يخرج الكلام متخاذلًا مفككا كأنه ناقة من وباء مرض، ويخيل