من يوم أَن سقطت تلك المدينة العبقرية التي فتنت الناس وأغوتهم، ورمت في قلوبهم أعوانها وأشياعها، وأطلقت عليهم لذاتها فأطلقوا عليها شهواتهم .. من يوم أن سقطت باريس الفرنسية: لا أكاد أستريح من نفسي ولا من قلقها واشتياقها واضطرابها الى أمر غامض لم تنجل غمامته بعد. إني من ذلك اليوم لأنطوى بين جدرانى أفكر، أو آوى إلى ليل الحرب المظلم أسبح وأتخيل وآخذ لقلبي متاعه من الفرح، أو لوعته من الحزن. نعم! لقد آثرت أن أنفرد في هذه الأرض أعيش وحدى، وآكل وحدى، وأفكر وحدى، كما أفرح وحدى، وأتألم وحدى، فإن يكن في هذه الوحدة متاع ولذة، فذاك بعض فنون الدنيا، وإن يكن منها شجو وحسرة، فذاك بعض شجونها.
ولكن. . هل استطعت أن أكون أبدًا وحدى؟ كلا، كلا! ما ظنك بإنسان قد فرض عليه -أو فرضت عليه إنسانيته- أن يكون حيًّا يتداخل في الحياة كما تتداخل عليه، وأن يؤدي وظيفتها كِفاء ما وظفت له من أسباب الحياة: من هواء ونور وحرارة وحركة. وقد جعلت وظيفتى في هذه الحياة في شيء أحسنه بعض الإحسان، ألا وهو هذا الأدب الذي نعيش به، و .. و .. ونحيا له إن شئت.
فهذه الوظيفة تحملنى على أن أدع ما أحب إلى ما لا أحب، وأن أضرب النفس على واجبها بالسوط والعصا حتى تنقاد، فليس يحسن بمن هذا عمله وتلك وظيفته أن يقطع نفسه عن إنتاج الأدباء الذين يعاشرونه ويعاصرونه، ولا أن يتخلف عن شهود مواكبهم أو مآتمهم في راحة أو تعب فلذلك كان لزاما على أن أقرأ لأصحابنا -أطال الله بقاءهم ومدّ في أعمارهم- كل ما يكتبون، فإن لم
(*) الدستور -السنة الثالثة- العدد ٧٨٧، الجمعة ٢٩ جمادى الأولى ١٣٥٩ هـ، ٥ يوليو ١٩٤٠، ص ١.