للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من مذكرات ابن أبي رَبيعة الحقيقة المؤمنة

" قال عمر بن أبي ربيعة". . . فبادرت أعدو يكادُ ينشقُّ عليَّ جِلْدى من شدَّة العَدْو، فقد أَكلتْ مني السنُّ وتعرَّقتْنى (١) أَنيابُ الكِبَر؛ فما جاوزت رَوْضة قصر أمير المؤمنين حتى تقطعت أنفاسي من الجهد، وتلقاني الآذِنُ: ما عدا بِكَ يا أبا الخطاب؟ فقلت: إِيذَن لي على أمير المؤمنين [هو الوليد بن عبد الملك]، فقد نزل بنا ما لا ردَّ له، وتبعتُه. . . والله إِنَّ فرائصي لتُرْعدُ وكأني محمومٌ قد جرت عليه هبَّةُ ريح باردة. . . وغاب الآذنُ: فما هو إلا أمير المؤمنين يستقبلني كالفزِع، وقد خرج إليّ فقال: أي شيء هو يا ابن أبي ربيعة؟

قلت: والله ما أدري يا أمير المؤمنين، فما كان إلّا ومحمد بن عروة [بن الزبير] تحت سناكبها، فما زالت تضربه بقوائمها، وما أدركناه إلا وقد تهشم وجهه وتحطمت أضلاعه! ! .

وكأنما فارقتني الروح، فما أشعر إلا وأمير المؤمنين قائم على رأسي ينضح الماءَ على وجهي، وقد قُرِّبتْ إليَّ مَجْمرَةٌ يسطعِ منها ريح المندَلِ الرطِب، فلما أفقتُ ورجَعَتْ إليّ روحي سألني أمير المؤمنين أن أقصَّ عليه الخبرَ. . .

قلت: خرجنا أنا ومحمد بن عروة وهشامٌ أخوه نريد منزلنا من قصر أمير المؤمنين، نرجو أن نتخفَّف من بعض ثيابنا، فقد أنهكنا الحرُّ. . . فنظر محمد إلى مرآةٍ من فِضِّة مُجلوّةٍ معلقةٍ في البيت، ثم قال: أتذكُر يا أبا الخطاب حَجَّتنا تلك قلت: أيَّتهنَّ؟ فقد أكثرتَ وعمَّك الحجَّ، فقال: سرعان ما نسى الشيخ، لقد كبرت والله يا أبا الخطاب! وقد حدثني أبي بالذي كان منك، فقد كنت تسايره


(*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد ٣٤٨)، ١٩٤٠، ص: ٣٨٣ - ٣٨٥
(١) تعرق فلانٌ العَظْمَ: أخذ عنه اللحم